المخرج المغربي محمد أولاد محند لـ «الشرق الأوسط»: هذه قصتي مع «هرقل ضد هرمس»

صهر الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران ينجز فيلما وثائقيا عن أسرة قروية فقيرة في مواجهة آلية تتجاوزها

والدا «هرقل» أمام منزلهما المجاور لشاطئ البحر في ضواحي مدينة أصيلة (تصوير: دافيد كيزمو)
TT

يصارع محمد أولاد محند، المخرج والمنتج السينمائي المغربي، وزوج ابنة الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، مازارين بينجو، الزمن من أجل أن ينهي إنجاز فليمه الوثائقي «هرقل ضد هرمس»، الذي تأخر بثه وعرضه بسبب ضغوطات، يمارسها باتريك غيران هرمس، سليل أحد أغنى العائلات الفرنسية، المالكة لإحدى أشهر دور الأزياء في العالم.

ويروي الفيلم، ومدته 90 دقيقة، قصة الفلاح المغربي محمد المكتيري، 32 سنة، الملقب «هرقل» جراء قوته البدنية، الذي يعيش رفقة عائلته على أرض صغيرة بالقرب من مدينة أصيلة (شمال)، حيث يمارس الزراعة والصيد البحري مع والده وإخوته الثمانية. ورغم أن منظر الأرض يوحي بأن ثمة مذاقا للسكينة والسعادة يخيم على الأجواء، فإن عائلة المكتيري تعيش مشاكل جمة مع جارها الفرنسي الوحيد.

وكان هرمس قد اشترى أراضي كثيرة في المنطقة من أجل إقامة مشروع سياحي ضخم، لكن حلمه لم يتحقق بسبب «هرقل» الذي رفض بيعه القطعة الأرضية الصغيرة، ومن هنا بدأت الصعوبات. لكن ما علاقة المخرج أولاد محند بلعبة «شد الحبل» اللامتكافئة بين هرقل وهرمس. «الشرق الأوسط» التقته أخيرا في الرباط، وروى لها في الحوار التالي قصته معهما وأسباب إنجاز الفيلم الوثائقي.

* أنت بصدد وضع اللمسات الأخيرة على فيلمك الوثائقي «هرقل ضد هرمس»، الذي يتناول حكاية المقاومة العنيدة التي يبديها قروي مغربي ملقب «هرقل»، ورفضه بيع قطعة أرضية في ملك عائلته لجاره «هرمس» أحد ورثة أشهر وأرقى دور الأزياء العالمية. فما قصة هذا الصراع اللامتكافئ؟

- ما يهمني بالدرجة الأولى، وبعيدا كل البعد عن قصة «داود ضد جالوت»، هو حكاية هذه الأسرة القروية التي ترفض بيع قطعتها الأرضية رغم الضغوطات التي يقولون: إنهم تعرضوا لها، والتي أدت إلى الاعتقال، حيث اعتقلت الأم وقضت عقوبة سجنية في عز أيام عيد الأضحى كما سجن ابنها لمدة 6 أشهر.

كانت رغبتي حثيثة من خلال يوميات هذه الأسرة القروية فهم آليات هذه المقاومة شبه الانتحارية، وهي يوميات أو بالأحرى صورة يومية مقربة لأسرة قروية أغلب أفرادها أميون ولا مورد ماليا لها في مواجهة آلية تتجاوزها. وفي أوج متابعتنا إكراهات مقاومتها، يظهر لنا الفيلم أن رفضها بيع القطعة الأرضية ليس بالأمر الساذج أو العنيد، كما أنه لا تشوبه توجهات سياسية أو آيديولوجية. فالأسرة تعيش على أرضها في هدوء وسعادة، وفي تناغم عميق مع الطبيعة، ومهما كان المبلغ المقترح عليها مقابل بيع الأرض ضخما، فإن الأم ترفضه لأنها لا تريد أن يشتت المال شمل عيالها، ويهدم التوازن الذي تعرفه العائلة، كل هذا يدخل في إطار الوعي بمطبات المدينة التي قد تودي بمستقبل أبنائها. ولعل الاقتراح المالي الذي قدم لهذه الأسرة كان في مقدروه أن يسمح لها بامتلاك عمارة في «أصيلة» تكفل لهم دخلا قارا.

«هرقل ضد هرمس» هو إذن ليس فيلما سياسيا يخلط بين الاستثمارات الخارجية وبعض مظاهر الاستعمار الاقتصادي الجديد. بالعكس، أنا أعتقد أن قدوم رؤوس أموال أجنبية، خاصة في المجال السياحي، يعتبر فرصة مهمة لبلادنا، في خلق مناصب شغل ودينامية اقتصادية جديرة بالاحترام، غير أن أساليب الاستثمار من هذا النوع عليها أن تكون شفافة وتحترم الساكنة المحلية وليس ضدها. هذا هو موضوع الفيلم.

* كيف جاءتكم فكرة إنجاز هذا الفيلم؟

- لي ارتباط روحي بشاطئ «سيدي مغيث» الذي أتردد عليه كل صيف. هو بالنسبة لي رمز للتسامح والتناغم. هناك من يرجع هذا التناغم لشخصية الولي الصالح «سيدي مغيث»، الذي يوجد ضريحه ملاصقا لمنزل السيد باتريك غيران هرمس، الذي يهيمن على الشاطئ كله. حيث يتعايش المغاربة في تناغم تام وهم يؤدون صلواتهم بين فترة سباحة وأخرى، والسياح الأوروبيون، وخاصة الإسبان، يفضلون قضاء عطل نهاية الأسبوع به. إن لشاطئ سيدي مغيث سحرا خاصا وفرادة تجعله يختلف عن باقي الشواطئ.

منذ 3 سنوات وبينما أنا أتخذ مكاني رفقة أسرتي بالمقهى القصبي على شاطئ سيدي مغيث، الذي يملكه «هرقل»، كما هي عادتي كل سنة، كلما زرت أصيلة، استرعى انتباهي غياب صديقي محمد المكتيري، الملقب «هرقل»، وعلمت فيما بعد أن «هرقل» حكم عليه بالسجن مدة 6 أشهر نافذة جراء مصارعة جسدية بينه وبين حراس هرمس الذين هجموا على أرضه. آنذاك بدأت أتحرى الحقيقة، وهكذا كانت ولادة الفيلم.

* لأي نوع من الجمهور هو موجه هذا الفيلم؟

- في البداية كان الفيلم موضوع إنتاج مشترك مع القناة الفرنسية - الألمانية «آر تي» في أفق بثه في إطار برنامجها «كران فورما»، غير أن الطموح تطور شيئا فشيئا ليعرف الفيلم انضمام الكثير من الشركاء: المنظمة الدولية للفرانكفونية، برنامج ميدميديا للاتحاد الأوروبي، مركز السينما والصورة المتحركة بفرنسا، صندوق دعم الإنتاج لوكالة الإعلام بدبي (إنجاز)، القناة المغربية التلفزيونية الثانية (دوزيم) هي أيضا مشاركة في الإنتاج، وستعمل على بثه بشكل حصري. كما يحظى الفيلم باهتمام دولي واسع، ويجمع حوله ممولين ومنتجين لم يحدث حتى اليوم أن تقاسموا إنتاج فيلم معا، كقناة «الجزيرة» وتجمع القنوات العمومية الأميركية (إي تي في إس)، هذا بغض النظر عن كثرة القنوات التي عبرت عن اهتمامها باقتناء الفيلم (كندا، هولندا، سويسرا، سلوفينيا)، كما سيتم عرض الفيلم في القاعات السينمائية.

* كيف مرت ظروف التصوير؟

- استغرقت مرحلة التصوير مدة طويلة. وقد واجهنا خلالها الكثير من الضغوطات والإكراهات، إلى غير ذلك من ممارسات الترهيب والتهديد.

* ما نوع الضغوطات التي تعرضتم لها؟

- هي ضغوطات من كل الأشكال والأنواع. قد أقتصر هنا على مثال واحد. يوم كنا نستعد لتصوير مشهد في ضريح سيدي مغيث بعد أن حصلنا على كل الرخص المطلوبة، ونحن بصحبة الإمام الذي انتدبته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لهذا الشأن، تفاجأت بأحد أعوان السيد هرمس وقد تسلح بحجر صخم واندفع لمهاجمتي مانعا إيانا من التصوير. استنجدنا برجال الدرك من خلال مركز الجيش الملكي الموجود في الشاطئ، لكن دون جدوى. إن هذا العون نفسه تم اعتقاله يومين بعد هذا التهجم العدواني للاشتباه في تورطه في عملية تهريب دولية للمخدرات جرت في نفس الشاطئ. كما صدر في حقه حكم جراء مهاجمتنا ومحاولة منعنا من التصوير. وبعد أيام، وبينما نحن بصدد التصوير على الشاطئ، باغتني أولاف هرمس نجل باتريك هرمس بالسباب محاولا هو الآخر منعنا من التصوير مصحوبا بأحد حراس المسكن، ناعتا إياي بأبشع النعوت. وقد وضعنا شكوى ضده في يوليو (تموز) الماضي. غير أنه وبعد مرور 7 أشهر ما زالت النيابة العامة بأصيلة لم تتخذ أي إجراء بخصوص شكوانا. والداعي للاستغراب هو أن السيد باتريك هرمس وضع شكوى ضدي وضد المنتج الفرنسي للفيلم بدعوى «انتهاك الحياة الخاصة». وسارعت الشرطة إلى استدعائنا 3 أيام بعد تسجيل شكوى السيد هرمس. وأؤكد أننا (أنا والمنتج) كنا موجودين في باريس، واضطررنا للسفر إلى المغرب للاستجابة لاستدعاء الشرطة في الوقت المحدد. كل هذا من أجل شكوى مفتعلة ولا أساس لها من الصحة. وحتى أضعك في الصورة أكثر، تصور معي أن صحافيا يقعد على كرسي في مقهى وهو منهمك في كتابة مقال، وتأتي أنت وتهاجمه تحت ذريعة ما، مع العلم أن مقاله ما زال في طور الكتابة ولم ينشر بعد. إن شكوى السيد هرمس تعد سابقة في تاريخ القضايا لأنها عارية من الصحة ولا تستند لمرجعية قانونية ما دام أن ما يتهمنا به لا يمكن إثباته إلا بعد بث الفيلم وليس إبان تصويره. لقد رفعت إلى علم السيد وزير العدل والحريات المغربي، وكذا السيد وكيل الملك (النيابة العامة) بأصيلة بعواقب هذا التأخير وتأثيره السلبي على الكثير من شركائنا في إنتاج هذا الفيلم. وإنني لمقتنع بفعالية ونزاهة العدالة المغربية في معالجة هذا الملف الشائك بإنصاف وفعالية.

بالإضافة إلى ذلك، هناك المحاولات التي يقوم بها السيد هرمس لدى كل من قناة «آر تي»، والمركز السينمائي المغربي، ووزارة الاتصال (الإعلام) في المغرب لحثهم على أن يسحبوا منا رخصة التصوير التي نتوفر عليها. والداعي للاستغراب أيضا أن محاولات هذا السيد تأتي في الوقت الذي يمضي فيه المغرب قدما لإعطاء حرية أوسع لوسائل الإعلام والإبداع بمقتضى نص الدستور الجديد. وبعد أن استمع السيد مدير المركز السينمائي المغربي صحبة منتجي الفرنسي بناء على شكوى السيد هرمس قرر في النهاية منحنا رخصة تصوير جديدة.

لقد أخرجت وأنتجت أكثر من 40 فيلما في مختلف أنحاء العالم (أكثر من مرة في إيران، في الولايات المتحدة، في البرازيل، في كندا، في فرنسا)، ولكنني لم أتعرض قط لمثل هذه الضغوطات إبان ممارسة عملي، إلا مع هذا الفيلم الذي أصوره في بلدي، وفي مدينتي، وعلى شاطئ أعرفه حق المعرفة منذ طفولتي.

* ما دام فيلمك لا يحكي إلا عن أسرة قروية، فلماذا يثير كل هذا الخوف؟

- لست أدري. لا شك أن المتهيبين من هذا الفيلم لديهم إحساس بذنب اقترفوه، كما يقال. وحتى نكون جديين فإن «هرقل ضد هرمس» ليس فيلما متحاملا على أي كان، ولا يرصد لصراع سوء الجوار. في الحقيقة هذا النوع من الصراع موجود في كل بقاع العالم. وقد ارتأيت معالجة هذه المشكلة للحديث عن قضايا أعمق: صمود أسرة قروية رائعة، أمية، ومن دون موارد، مستعدة لكي تضحي بكل شيء في سبيل أرضها.

يجب أن أشير أيضا إلى أن الفيلم حتى وإن كان يحكي الحياة اليومية لهذه الأسرة المغلوبة على أمرها، فإن تحريات مسؤولة تم القيام بها بعمق وحياد أشركنا فيها سكان القرية المعنية والقرى المجارة لها، سلطت الضوء على الكثير من الحالات والتي سأذكر لك بعضا منها مثل قيام السيد هرمس بالعمل على تمرير خط كهربائي عالي الضغط يغطي مسافة كيلومترات، ويصل إلى منزله على الشاطئ، وهو ضغط يمكن أن يزود بالكهرباء مدينة صغيرة. بعض الصواري العملاقة بضغطها الكهربائي العالي تمت إقامتها على أراضي سكان القرية دون استشارتهم، معرضين هذه الأراضي لخسارة في قيمتها. هناك أيضا مثال آخر يتعلق بمياه نبع «سبع عيون» الذي يزود القرية بكاملها بالماء الصالح للشرب، وهو ملك عمومي تم احتكاره لاستعمالات خاصة بسكن السيد هرمس، حارما بذلك جزءا هاما من سكان القرية من الماء الصالح للشرب. ومن بين الأمثلة التي يمكن أن أذكرها كذلك، هو أنه في فصل الصيف يوضع مكبر صوت فوق سطيحة ضريح الولي «سيدي مغيث» لإسماع الأذان عاليا بين مصطافي الشاطئ. ذات يوم وبحضور الكاميرا قطع التيار الكهربائي عن الضريح انطلاقا من سكن السيد هرمس لإسكات صوت المؤذن.