بيكاسو في لحظاته الحميمة كما صوره الأميركي دوغلاس دنكان

معرض فريد في مكان أكثر فرادة

صالة «البيسين» للعرض الفني في مدينة روبيه الفرنسية حيث يقام معرض صور عن بيكاسو
TT

معرض فريد في نوعه ذاك الذي فتح أبوابه في مدينة «روبيه»، أقصى الشمال الفرنسي، لمجموعة من الصور التي التقطها المصور الأميركي الشهير ديفيد دوغلاس دنكان للرسام بيكاسو. ويمكن لعشاق الفوتوغراف الحقيقيين ومحبي الفنون التشكيلية المعاصرة، ممن تقودهم خطواتهم إلى المنطقة، تخصيص نهار لزيارة البلدة ومشاهدة المعرض الذي يستمر حتى 20 مايو (أيار) المقبل.

وهو معرض فريد مرتين، الأولى لأنه يقام في صالة «البيسين». وهي كما يدل عليها اسمها كانت مسبحا مغطى ذا معمار مميز وأقواس عالية وسقوف زجاجية تشعر الزائر وكأنه في متحف أو كاتدرائية مهيبة. لقد تم تشييده بين عامي 1922 و1932 على يد المعماري ألبير بايير، بناء على طلب من بلدية المدينة. وجرت العادة، آنذاك، أن تبني الدولة مجموعة مسابح وحمامات في الأحياء السكنية المختلفة لتكون تحت تصرف الناس، نظرا لأن معظم المباني والشقق كانت بدون صالات استحمام. وقد تحولت تلك الأماكن إلى ملتقيات شعبية يجد مرتادوها خدمات عدة، عدا الماء الساخن والصابون. ففيها دكان لحلاق وحديقة للتريض وناديا للالتقاء بالأصدقاء ومقهى لاحتساء المشروبات الساخنة. وفي منتصف القرن الماضي تحول المسبح إلى متحف للفن يعرض مجموعة دائمة من أعمال مشاهير النحاتين الفرنسيين.

أما الفرادة الثانية لهذا المعرض فهي في تلك الصور التي نرى فيها الرسام الإسباني الأشهر في القرن العشرين وقد خلع عنه هالة الفنان وسار حافيا في ورشة الرسم، يغني ويرقص ويأكل البطيخ. إن المرء لا يتحرر من اللياقات، على هذا النحو، إلا أمام صديق أو قريب. وقد ربطت بين بيكاسو والمصور الحربي دوغلاس دنكان صداقة وطيدة سمحت لهذا الأخير بأن يلتقط سلسلة من الصور للرسام، بين عامي 1956 و1961، تكشف عن اللحظات الحميمة والعائلية في حياته.

إن بعض هذه الصور لم يعرض أمام الجمهور الفرنسي، وهي جاءت إلى «البيسين» بفضل الاستعارة من «متحف بيكاسو» في مدينة ملقا الإسبانية ومن متحفه الآخر في «مونستر» في ألمانيا. ويضم المعرض 157 صورة فوتوغرافية استثنائية، بالإضافة إلى 100 عمل لبيكاسو تتنوع ما بين الرسم والتخطيط والخزف والنحت والتشكيلات الورقية. وقد صمم الخبير الفرنسي سدريك كيرلوس كوان مسار المعرض وفقا للموضوعات التي تنتمي إليها الأعمال، فهناك المجموعة التي تنضوي تحت عنوان «مصارعة الثيران»، ثم الأعمال النحتية والتجميعية، ثم صور البحر والسابحين، ثم الأقنعة والثياب التنكرية.

يعتبر ديفيد دوغلاس دنكان واحدا من أكثر مصوري القرن العشرين تأثيرا. وقد بدأ حياته مجندا في البحرية الأميركية وما زالت صوره عن الحرب العالمية الثانية ماثلة في أذهان الجيل الذي عاصرها. تنقل بين الجبهات في حربي كوريا وفيتنام وسجل بعدسته أهوالهما. وكانت شهرته قد ذاعت منذ مصادفة غريبة كان شاهدا عليها وحقق فيها سبقا صحافيا نادرا، فهو قام بالتقاط سلسلة من الصور لفندق أميركي شبت فيه النار، مركزا على نزيل كان يحاول بشتى الطرق أن يعود إلى غرفته لإنقاذ حاجياته. وقد تبين، بعد نشر الصور، أن الزبون ليس سوى لص البنوك الشهير جون دلينغر وقد حاول أن ينقذ من النار حصيلة حادثة سطو قام بها وأسفرت عن مقتل شرطي.

بعد الحرب، تعاقدت مجلة «لايف» مع دوغلاس دنكان ليعمل مع فريقها الذي كان بإدارة كبير المصورين جي. آر. إيرمان. وسافر لتغطية أبرز نزاعات وأحداث النصف الثاني من القرن العشرين وجمعها في كتاب بعنوان «هذه هي الحرب»، ذهب ريعه لأيتام رفاقه من جنود البحرية الذين قتلوا في المعارك. كما أصدر كتابين لاحقين عن الحرب في فيتنام بعنوان «أنا أحتج» و«حرب بدون أبطال».

وبموازاة صور الحروب كان دنكان فنانا في التقاط الوجوه البشرية. ومن هذا الباب دخل إلى حلقة بيكاسو الذي صار صديقه وسلمه سحنته لكي يصورها كيفما يشاء. لقد أقام مع الرسام في منزله «فيللا كاليفورنيا» في مدينة كان، على الشاطئ الجنوبي لفرنسا، وقدم له خاتما من البرونز كعربون للصداقة. وكان اسماهما «بيكاسو - دنكان» محفورين على الخاتم. وقد أحب الرسام تلك الهدية من المصور وسمح له بالاقتراب منه وتصويره وهو أثناء حمى الإبداع، أو وهو يرقص مع حبيبته، أو حتى وهو في أكثر لحظاته حميمية وهو يستحم في مغطس الماء بحمام بيته. والعجيب أنها كانت أول صورة يلتقطها دنكان له. واستمرت الصداقة بينهما حتى رحيل بيكاسو عن الدنيا عام 1973.