حينما تنسد أمامك السبل في البحث عن كتاب ما في المكتبات فإن أصحابها سيقولون لك عبارة تقليدية يعرفها معظم الكتاب والمثقفين بالإسكندرية: «عليك وعلى (عم جلال) بمنشأة المعارف»، تلك الدار التي تعد أقدم وأكبر دار نشر بالإسكندرية، وبها مساحة عرض كبيرة تمتد لعشرات الأمتار، ولها بابان يطلان على شارعي سعد زغلول والغرفة التجارية أكبر وأهم شوارع المدينة بمنطقة محطة الرمل.
يبلغ «عم جلال حزي» من العمر 98 عاما إلا أنه ما زال يمارس عشقه في الحياة بين ضفاف الكتب، مكتسبا حيوات لا تنتهي من المعرفة، لذلك يؤكد أن عمره الحقيقي خمسمائة عام إذا حسبنا عمره قياسا برحلات القراءة والبحث العميقة في متون وهوامش الكتب.
ويشتهر «عم جلال حزي» في أوساط الشباب بأنه أكثر من يشجع إنتاجهم الأدبي في المدينة العريقة، حيث تتولى «منشأة المعارف» التي يملكها نشر عشرات الكتب سنويا للشباب في مختلف أوجه المعارف الثقافية والروائية والعلمية.. كما يشتهر بأنه صاحب أكبر إنتاج في المكتبة القانونية العربية.
يقول «عم جلال»، لـ«الشرق الأوسط»، إنني «أشعر بالدفء وأنا بين آلاف الكتب التي هي ورائي وأمامي وعلى جانبي بالمكتبة، ولا أتقاعس في أقسى الظروف المناخية أو الصحية الصعبة صيفا أو شتاء عن الوجود بالمنشأة.. وأقضي وقتي في القراءة أو استقبال الضيوف من الشباب المؤلفين، ومناقشتهم في إنتاجهم الأدبي والعلمي، فهذه متعتي وحياتي».
وبذاكرته يعود إلى خمسينات القرن الماضي ويحكي لنا كيف كان يستقبل كل الروائيين والأدباء المشهورين من أمثال نجيب محفوظ وعباس العقاد وكذلك عميد الأدب العربي طه حسين وغيرهم، وكان يناقشهم في إنتاجهم الأدبي حيث كانوا يعتبرونه «ترمومترا» لقياس مدى نجاح إبداعاتهم جماهيريا. ويقول «عم جلال»: «كان عباس العقاد يقضي شهور الصيف بالإسكندرية وكان يأتي إلى المنشأة ويطلب مني كلما كان يبدأ في تأليف كتاب تجهيز عشرات المراجع له لتعينه على الكتابة. وأذكر أنه في الخمسينات من القرن الماضي كان يشتري في كل مرة كتبا بمبالغ طائلة وقتها تصل إلى 350 جنيها مصريا، وهو مبلغ ضخم جدا بمقاييس هذه الحقبة من الزمن».. ويتابع: «أذكر أنني في إحدى المرات قمت بعمل خصم له على مشترياته من الكتب بنسبة 10 في المائة (نحو 35 جنيها) فكان سعيدا جدا ويومها صمم على تسجيل كلمة له في سجل التشريفات بالمنشأة، وهو سجل يخصص لكبار الزوار لتسجيل كلماتهم وانطباعاتهم عنها». ويفاجئنا «عم جلال» بأنه ما زال محتفظا بالسجل النادر الذي يضم مئات الصفحات من كلمات الإعجاب بالمنشأة من بينها كلمات لطه حسين والعقاد ومحفوظ.. ويستعرض «عم جلال» كلمة العقاد التي جاء فيها: «لو كان للمكتبات جائزة يستحقها أصحابها الذين يعرضون المؤلفات القيمة لأغراض علمية تغلب على الفائدة التجارية لاستحقها جلال حزي لأني وجدت عنده أكثر الكتب التي أقرأ عنها في صحف النقد ولا تصل إلينا في القاهرة».
يفخر «عم جلال» بأنه كان صديقا لعميد الأدب العربي طه حسين، ويروي أن العميد كان يأتي له في أشهر البرد القارس ليناقشه في محتوى كتبه ومؤلفاته ويسأله عن رأيه في تسويقها والمواعيد المناسبة لطباعتها طبعات متكررة وإعادة طرحها بالأسواق.
ويشير «عم جلال» إلى أنه الناشر الرئيسي لكل كتب المستشار عبد الرازق السنهوري صاحب أشهر وأقوى موسوعة كتب قانونية في تاريخ المؤلفات القانونية في مصر والعالم العربي، ويضيف: «لقد كان الإخوة العرب يطلقون على المنشأة (the laws of the east)»، تشبيها بأكبر مكتبة قانونية في العالم والتي تحمل ذات الاسم في العاصمة الفرنسية باريس.
ويتابع: «ما زلت أحلم بالمزيد من التطور حيث أسعى دائما لمواكبة كل جديد»، مشيرا إلى أنه ليس «دقة قديمة» - بحسب تعبيره - حيث كان أول من عرض للبيع في مكتبته الأسطوانات المدمجة (السي دي) والتي تحتوي على الكتب لتشغيلها من خلال جهاز الكومبيوتر.
وحول تطور سوق بيع الكتب يقول حزي: «سوق الكتب بمصر تأثرت في عهد الرئيس السابق، فالحالة الاقتصادية كانت تجبر المصريين على اعتبار شراء الكتب من الرفاهية، ناهيك عن الأغلبية العظمى التي لا تجد قوت يومها، وفي العصور السابقة كان الشباب يعتبر الكتب هي تسليته الوحيدة وكان مصروف كل شاب وفتاة يتيح له أن يقتطع منه جزءا لشراء الكتب وهو ما لا يتوافر الآن، بالإضافة إلى ذلك ظهور الإنترنت وإتاحة معظم الكتب الشهيرة على الشبكة العنكبوتية بشكل مجاني. لكن ذلك لن يقضي على سوق الكتب أبدا لأن هناك متعة خاصة للقراءة من الكتاب لا يعرفها إلا من ذاقها»، ويضيف: «كما أن الكتب التي تتوافر عبر شبكة الإنترنت غالبا ما تكون للكتاب المشهورين إلا أن آلاف الكتب الأخرى يجب أن يحضر القارئ للمكتبة حتى يتعرف عليها».
يشرد قليلا ثم يواصل حديثه: «كانت الكتب في الماضي تتركز حول الإنتاج الأدبي والروائي، أما الآن فالإنتاج الأدبي تحول إلى مجرد فرع من فروع الإنتاج، فالآن هناك كتب في شتى المجالات العلمية والهندسية والطبية وغيرها. لقد كانت أكثر الكتب رواجا في منتصف القرن الماضي هي الكتب الأدبية وروايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس، بينما الآن أصبحت الكتب الإسلامية تتصدر المبيعات».
ويقول «عم جلال»، وهو مسيحي الديانة: «لا أجد أي غضاضة في عرض وبيع الكتب الإسلامية، على العكس فهي وغيرها من الكتب تعد مصدر رزق لي وقد تربيت في عهود لا تعرف الفارق ما بين المسلم والمسيحي، بل إنني أحرص على قراءتها وفهمها وهو ما أفعله مع أي كتاب يتم عرضه بالمكتبة الخاصة بالمنشأة حتى إذا ما سألني أي (زبون) عن محتوى الكتاب أكون جاهزا لإجابته وإرشاده».
ويشير «عم جلال»، الذي فاز بجائزة أحسن ناشر مصري، وهي الجائزة التي يمنحها اتحاد الناشرين المصريين لأبرز الناشرين في تاريخ مصر، إلى أن هناك العديد من الدول العربية ما زالت تحتفظ بسوق رائجة لبيع الكتب وتقيم لها معارض على مدار العام ومنها الدول الخليجية التي لا تعاني من مشكلات اقتصادية، وكذلك السودان والعراق اللذان يعدان من أكثر الشعوب العربية إقبالا على شراء الكتب رغم ظروفهما الاقتصادية الصعبة، يضاف إليهما في الإقبال على شراء الكتب مصر ودول المغرب العربي.