المتحف الزراعي بالقاهرة.. صرح منسي في زيارات المصريين

كان قصرا تبرعت به ابنة الخديو إسماعيل وافتتحه الملك فاروق

تمثال الفلاح المصري حاملا فأسه الشهيرة بحديقة المتحف و واجهة المتحف حيث الطابع المعماري المستوحى من التراث الفرعوني
TT

بضاحية الدقي في قلب العاصمة المصرية، وعلى مقربة من وزارة الزراعة، يقف المتحف الزراعي شاهدا على قيمة الأرض في حياة المصريين، وكيف أصبحت ركيزة حضارية عبر العصور التاريخية القديمة، حيث أدرك ملوك وحكام المصريين أهمية مهنة الزراعة في حياة شعوبهم، فدعموها بشتى السبل. وحاليا لا يزال يحترف الزراعة قطاع كبير من المصريين يرون أن الأرض هي العرض، لا يجوز التفريط فيها، أو الاستغناء عن زراعتها.

وحرصا من الأسرة «العلوية» على نشر التوعية بقيمة الأرض وأهمية الزراعة في حياة المصريين كان إعلان الأميرة فاطمة، ابنة الخديو إسماعيل، في عام 1929 عن التبرع بقصرها الكائن في ضاحية الدقي بالجيزة ليصبح متحفا زراعيا يخلد هذه المهنة ويوعي المصريين بأهميتها. وظل إعداد المتحف ساريا حتى افتتحه الملك فاروق في 16 يناير (كانون الثاني) عام 1938، بحضور كبار رجال الدولة آنذاك.

تبرع الأميرة بقصرها لتحويله إلى متحف، لم يكن غريبا على بعض أفراد هذه الأسرة التي حاولت أن تتواصل مع أفراد الشعب، فقبل عقدين تقريبا من إنشاء المتحف تبرعت الأميرة فاطمة وساهمت في إنشاء الجامعة المصرية، التي حملت في البداية اسم «جامعة فؤاد الأول» ثم تحولت بعد ثورة 1952 إلى «جامعة القاهرة». كما أوصت الأميرة فاطمة بأن يؤول قصرها بمدينة الإسكندرية إلى المصريين، وهو ما حدث عندما تم تحويله إلى متحف يعرف باسم متحف المجوهرات الملكية، ويحظى بأكبر عدد من المقتنيات الملكية لأسرتها.

في بادئ الأمر حمل المتحف الزراعي اسم «متحف فؤاد الأول الزراعي»، ومع قيام ثورة 23 يوليو 1952، جرى تغيير اسم المتحف إلى «المتحف الزراعي»، ومن وقتها وهو يحمل ذات الاسم.

شهد المتحف بعد قيام الثورة إضافة العديد من المنشآت إليه، ليصبح متحفا متكاملا مثل متحف البهو العربي، وكان ذلك في عام 1961، بالإضافة إلى متحف للعلوم الزراعية، وتم تقسيمه إلى متحفين، أحدهما للزراعة المصرية القديمة في العصر الفرعوني، والثاني للزراعة المصرية القديمة في العصر اليوناني الروماني والقبطي والإسلامي، حتى أضيف إليه متحف القطن في عام 1996، وأخيرا متحف المقتنيات التراثية في عام 2002، إدراكا بأهمية الزراعة في حياة المصريين.

ورغم أن المتحف يقع في قلب القاهرة، ومع قلة الإقبال على زيارته أصبح من المتاحف المنسية التي قلما يزورها المصريون.. فالمتحف لا يحظى بكثير من الزيارات، باستثناء الزيارات المدرسية التي تنظمها المدارس المختلفة لطلابها، أو الزيارات الفردية، في الوقت الذي يؤكد فيه القائمون على المتحف مثلا أنهم لم يشاهدوا مزارعين من القرى يحضرون إلى القاهرة يقومون بزيارة المتحف، ليشاهدوا مقتنياته أو ما يمكن من خلاله أن يستحضروا قيمة الزراعة في نفوسهم، وأنها المهنة التي يحترفونها.

وخلال زيارة لـ«الشرق الأوسط» بالمتحف لاحظت ندرة هائلة في عدد الزائرين لهذا الصرح التاريخي، ويرجع البعض ذلك إلى غياب الوعي بقيمة الزيارات المتحفية في مصر، والنظر إليها على اعتبار أن المعني بها هم النخبة في الأساس، أو أنها تخص السياح الأجانب فقط. إلا أنه مع تشكيل نقابة للفلاحين، التي نشأت كأحد مكتسبات ثورة 25 يناير، بعد ممانعة النظام السابق لقيامها على مدى سنوات، فإن هذه النقابة يمكن أن تساهم في تنمية الوعي بزيارة مثل هذا المتحف، الذي يبدو من خارجه أنه يضم أقل القليل من المقتنيات، حتى إذا دخله الزائر فوجئ بالمساحات الشاسعة التي يضمها المتحف من زراعات، معبرة عن البيئة الزراعية لمصر.

ونظرا لتنوع الزراعات ومشتملاتها ووسائلها، فقد أضيفت العديد من القاعات المتحفية داخل المتحف ذاته، منها متحف النباتات التراثية، الذي حرص القائمون عليه أن يحمل اسم المتبرعة بقصرها لإنشاء المتحف، حيث حملت لوحة هذه القاعة اسم الأميرة فاطمة إسماعيل. وفي داخل المتحف معامل للحفظ والصيانة والترميم ومقاومة الحشرات والكائنات الدقيقة، وهي الإضافة التي جرت على المتحف في عام 1996، كشكل من أشكال تطوير المتحف، وجذب الزائرين إليه، وخدمة الأغراض العلمية.

كما يلاحظ الزائر تماثيل لملوك المصريين القدماء (الفراعنة)، الذين اهتموا بالزراعة، وتوفير الغذاء والكساء للشعب المصري ورعاية الحيوانات، ومن هؤلاء «أمنحتب الثالث» الذي قام بترميم ما يعتقده الآثاريون سدا عند منطقة اللاهون لتخزين مياه فيضان النيل دعما للزراعة.

تنشر مقتنيات المتحف بالطابقين الأرضي والثاني، عبر قاعات كلها تضم مقتنيات دالة على الزراعة من فؤوس وتماثيل لنباتات وخضراوات يزرعها المصري القديم منذ العصور القديمة، ولا يزال يحافظ على زراعتها، خاصة ما يتغذى عليه الحيوان، فضلا عن تلك التي يتناولها الإنسان في طعامه بالأساس، مثل البقدونس والجرجير والخس وغيرها من المحاصيل الزراعية.

ويتمتع الطابق الأرضي بحديقة متحفية غناء تلخص جميع مقتنيات المتحف، وهي تقابل الزائر في أول دخوله للمتحف، وتضم زراعات ونباتات نادرة، يحرص القائمون على المتحف على رعايتها طوال العقود الماضية، باعتبارها من النباتات والزهور التي لا يمكن التفريط فيها. وبداخل الحديقة مساحة دائرية كبيرة محاطة بالأشجار والنخيل والنباتات والزهور. وعلى يمين الحديقة تقع قاعة النباتات التراثية، وفي قلب هذه المساحة الخضراء تمثال لفلاح يرتدي ثيابه المعهودة حاملا فأسه، في نحت بديع، وكأنه ينظر إلى مستقبل الزراعة في مصر.

خلف هذه الحديقة جدران، تحظى بتماثيل أخرى لفلاح وفلاحة يجاورهما تمثال لماعز، وبين أيديهما ورقة نباتية، في إشارة إلى تعاون الأسرة الريفية في زراعة أراضيها، وتعاون الرجل وزوجته في زراعة المحاصيل، فضلا عما تشير إليه الحاصلات الزراعية حولهما من دلالة على النماء.

وفي أعلى التمثالين حفرت آيات قرآنية تحث على تعمير الأرض وبنائها، وإبراز الزراعات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، مثل العدس والفول والبصل والزيتون وغيرها مما ورد ذكره في كتاب الله تعالى.

وفي داخل الحديقة نافورة رائعة، يبدو في هيئتها أنها تحاكي تلك القائمة في قصور الأسرة «العلوية»، بجانب الأشجار والنباتات التي يملأ عبقها المكان. وفي زاوية أخرى من هذه الحديقة يبدو تمثال رائع لفلاحة تقف في شموخ، حاملة على يديها إحدى أدوات الفلاحة المصرية، وهي ترتدي ثيابها الريفية البسيطة، لتضاف إلى غيرها من التماثيل التي تحاكي واقع مصر الزراعي، ليكون المتحف متحفا فنيا للتاريخ الطبيعي، وليخرج الزائر من زيارته محملا برائحة الأرض وعرق الفلاح وخبرة السنين.