ألمانيا تحيي الذكرى المئوية لوفاة الكاتب الشهير كارل ماي

اللص الذي أصبح كاتبا ودعا إلى وقف إبادة سكان أميركا الأصليين

كارل ماي وبيير برايس في دور وينيتو وليكس باركر في دور شاترهاند («الشرق الأوسط»)
TT

من سخرية القدر أن تزدهر موهبة الكتابة الروائية عند كارل ماي (1842 - 1912) في السجن، وليس على ذرى جبال كردستان، حيث كتب بعضا من رواياته، أو في الغرب الأميركي، حيث جسد شخصية الزعيم «وينيتو» ونضاله الأبدي من أجل السلام بين الغزاة الجدد وأصحاب الأرض الأصليين. إذ بدأ ماي حياته، وهو في سن الشباب، محتالا ولصا ومزورا شهد من الزنزانات أكثر مما شهد من نقانق بسبب الفاقة. نشأ في عائلة من 12 طفلا، وكان الصراع على الخبز مريرا بين الصغار والكبار حسب اعترافاته.

حكمت عليه محكمة لايبزج عام 1865 بالسجن مدة خمس سنوات بتهمة الاحتيال واللصوصية. إذ سبق له أن انتحل مرة شخصية طبيب أسنان، ومرة أخرى شخصية معلم، واحتال على الكثيرين كي ينتزع بعض النقود. ولحسن الحظ فقد كانت مكتبة السجن أفضل من مكتبات سجون هذه الأيام، فتوفر له ما يكفي من الوقت لقراءة كم هائل من الكتب في تلك المكتبة، التي احتشد أكثر من 4000 كتاب على رفوفها.

أطلق سراحه بعد ثلاث سنوات بسبب حسن السلوك، لكنه سرعان ما عاد إلى السجن عام 1870، لمدة أربع سنوات، بتهمة انتحال شخصية شرطي، وبتهمة تزوير النقود. وهكذا عاد اللص إلى نفس المكتبة ليستكمل قراءة ما تبقى من الكتب. وبدأ حياته ككاتب منذ لحظة خروجه من فترة السجن الثانية حيث أصدر روايته الأولى «وردة وادي ايرنست» عام 1874.

واليوم تحتفي ألمانيا بأحد أهم كتاب الرواية والمغامرات التي كرسها ماي لنشر أفكاره الإنسانية، وحبه للحرية، وكرهه للحروب والعنصرية. روايات تتحدث عن الشعوب المضطهَدة (بفتح الهاء) ورموزها، سواء في الغرب الأميركي المتوحش، وحرب الإبادة ضد «الهنود الحمر»، أو في جبال كردستان وحروب العثمانيين ضد الأرمن والأكراد.

بلغ ماي من الشهرة ما لم يسبقه فيها إلا الكبار من أمثال فولغانغ فون غوته وهاينريش هاينه، وخصوصا بالعلاقة مع توقهم إلى الشرق وتجسيدهم له في أعمالهم. ما زالت مبيعات كتب كارل ماي، وبطبعات جديدة، تنتشر من جيل إلى آخر، وتحولت، بحكم التقنيات الحديثة، إلى روايات مسموعة. أصدر كارل ماي أكثر من 33 حكاية ورواية و«روايات رحلات»، إضافة إلى عدد آخر من الحكايات للأطفال والشباب. ويقدر عدد النسخ التي بيعت من أعماله، التي ترجمت إلى أكثر من 50 لغة، بنحو 200 مليون على المستوى العالمي، منها 100 مليون في ألمانيا.

حولت معظم روايته عن زعيم الاباشي «وينيتو» (ثلاثة أجزاء) ومغامراته مع صديقيه «شورهاند» و«شاتر هاند» إلى أفلام ناجحة، ما زالت تعرض اليوم في التلفزيون الألماني، بعد أن أنتجت في الخمسينات والستينات. وارتبطت شخصية «الهندي الأحمر» وينيتو بشخصية الممثل بيير برايس، الذي منحها حيوية وشعبية لا يزال الناس يذكرونها حتى الآن. واضطلع الأميركي ليكس باركر بدور شاترهاند تاركا مهمة العجوز «شور هاند» إلى الممثل المعروف ستيوارت غرينجر. مع ملاحظة أن روايات كارل ماي تحولت إلى روايات أطفال، وإلى مجلات «كوميكس» وإلى أفلام كارتون أيضا منذ الستينات. ويعتبر فيلم «حذاء مينيتو» آخر الأفلام الألمانية التي عرضت في نهاية التسعينات في سلسلة الأفلام «الضاحكة» (بارودي) عن أعمال كارل فريدريش ماي.

تحول كارل ماي من معدم إلى كاتب ثري في نهاية القرن التاسع عشر، وإذا كان قد توقف عن السرقة وهو في سن الخمسين، فإنه لم يتوقف عن العودة إلى حياته الماضية متنكرا مرة بلقب «دكتور»، وهي خدعة قد تعكس رغباته بدراسة الطب وهو صغير. وعلى الرغم من أن «مغامراته» في الشرق والغرب الأميركي مجهولة، فإنه ادعى مرة أن شخصية «شاترهاند» تمثله، وهو ما خلق له الكثير من الأعداء. بل إنه صور نفسه على جواد ويحمل البندقية كما لو أنه نفس البطل الخيالي في رواياته. المهم أن قراءه كانوا يصدقون أقواله ومغامراته ويعتقدون فعلا أنه عاش في الشرق والغرب مثل هذه المغامرات المثيرة.

في ذكرى وفاته المائة قال الناقد المعروف روديغر شارب إن كارل ماي كان صاحب أكبر «أنا» في تاريخ الأدب الألماني. لكن «أناه» كانت مشحونة بالمعايير الأخلاقية والمشاعر النبيلة عن الحب وصراع الخير مع الشر. وبعد أن كانت الملايين تقرأ ماي في البيوت والمكتبات والمدارس، لم يعد يتذكره اليوم سوى قلة. ربما لأن رواياته المشحونة بالأخلاق والنبل والعدالة ما عادت تتلاءم مع ما يجري من مصاعب ومصائب في عالم اليوم.

وعام 2006 قال ماريو فارغاس ليوسا، الكاتب البيروفي اليساري، والحائز على جائزة نوبل، إنه في شبابه لم يقرأ كارل ماركس، كما قد يتوقع البعض، وإنما كل أعمال كارل ماي.

هناك اليوم في ألمانيا معهد ودار طباعة، متحفان، يحملان اسم كارل ماي، والمتحف الأول في البلدة التي شهدت مولده (ارنستال)، والثاني في البلدة التي شهدت وفاته (رادبويل).