«سيغما» تستشرف المستقبل باستشارات الخيال العلمي

المجموعة شاركت في منتدى التنافسية الدولي السادس الذي عقد في الرياض

TT

لم يعد تخيل وتصور واستشراف المستقبل تخمينا أو رجما بالغيب، بل هو علم يستند إلى أسس ووسائل منهجية وعلمية حديثة، لتحليل أحداث ووقائع الماضي والحاضر، لتوقع واستبصار المستقبل والاستعداد له.

ويعتبر الخيال العلمي (Science Fiction) من بين الوسائل والمداخل العلمية المهمة والقوية للتنبؤ بأحداث المستقبل، خاصة في المجالات العلمية، والتحذير مبكرا من تداعياتها وتبعاتها.

وتعتبر مجموعة «سيغما» (SIGMA)، وموقعها الإلكتروني (www.sigmaforum.org)، من المنظمات المهمة التي ينصب تركيزها على أفكار الخيال العلمي، وتدخل ضمن مؤسسات الفكر والرأي الأميركية المهمة، المعروفة باسم «Think Tanks»، أي: خزانات الفكر. واسم المجموعة مأخوذ من الحرف الثامن عشر من الحروف اليونانية الإغريقية، الذي يرمز إلى الجمع في الرياضيات. وهي مجموعة فريدة منتقاة من كُتاب الخيال العلمي البارزين والبارعين والتنبؤيين، تضم أكثر من 40 عضوا، وأسسها عام 1992 الدكتور المهندس وكاتب الخيال العلمي أرلين أندروز، الحاصل على 6 براءات اختراع. وتقوم المجموعة بتقديم خدمات استشارات عملية مستقبلية للاحتياجات القومية الحيوية، للحكومة الفيدرالية الأميركية، وغيرها من المنظمات غير الحكومية والخاصة، والكثير منهم ذو خلفيات علمية واسعة ومتنوعة، منهم علماء ومهندسون حاصلون على درجة الدكتوراه في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، وقضوا حياتهم المهنية في استكشاف مستقبل العلم والتكنولوجيا والمجتمع والثقافات. ولدى بعضهم في الوقت الحاضر وظائف في الصناعات الدفاعية والحكومة الفيدرالية الأميركية. ويتمتعون بالقدرة على افتراض تكنولوجيات جديدة ومشاكل جديدة ومجتمعات جديدة، والتنبؤ بإمكانات العلم وآثاره المترتبة على البشر. وترى مجموعة «سيغما» أن استقراء التكنولوجيا ببساطة غير كافٍ للتنبؤ، لكن ينبغي أيضا تقدير آثار التكنولوجيا على المجتمع والاقتصاد والحرب، لهذا تقوم المجموعة، بشكل فريد، بتقديم حلول جديدة ومبتكرة، لا سيما في مجال الدفاع والأمن القومي والأمن الداخلي، وذلك بما لديها من عقول جديدة مزودة بعيون جديدة ووجهات نظر جديدة وفريدة، فلدى أعضاء المجموعة خلفية قوية من الإنجازات العلمية والهندسية والإدارية، والرؤى المستقبلية، ومزيج من الخبرة الفنية مع عقود من الدراسة المتأنية لاحتمالات المستقبل، الأمر الذي يجعل لديهم قدرات غير مألوفة لمعالجة القضايا القائمة والمستقبلية ذات الاهتمام القومي. وتعمل كوسيط مثالي لتسهيل مناقشات قومية أو عبر وكالات، حول جميع جوانب واحتمالات المستقبل، والمفيدة في صنع السياسات والقرارات.

يقول الدكتور أندروز، مؤسس المجموعة: «إن (سيغما) هي مجموعة من كتاب الخيال العلمي المبدعين، الذين يتمتعون بقدرات غير مألوفة، ويقدمون رؤى فريدة حول تقنيات المستقبل المحتملة، وكذلك عن الأحداث والتهديدات والتطورات الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك القضايا القائمة والمستقبلية ذات الاهتمامات القومية، لقد أمضينا كامل حياتنا المهنية في استشراف المستقبل، من حيث التفكير فيه والكتابة عنه والمعيشة فيه، فنحن مدينون للوطن والبشرية، وعلينا أن نقدم المشورة وتقاريرنا عمَّا هو متوقع».

لكن، كيف غير الخيال العلمي كل شيء في حياتنا؟ وكيف يخدم المصلحة الوطنية؟

أدب الخيال العلمي يعرف بأنه أدب التغيير، وهو من أكثر أنواع الأدب تأثيرا على المجتمع؛ فهو يهتم دائما بالعلوم والتكنولوجيا ورصد آثارها على الأفراد والمجتمعات، ورسالته بالغة الأهمية والخطورة؛ فهو يتناول بالبحث والدراسة المتأنية التطورات المذهلة في العلوم والتكنولوجيا، والكشف عن الجوانب الضارة والمفيدة منها؛ فهو يتلمس صور الحاضر والمستقبل ويعدنا لاستقبالها ويحذرنا من أخطارها. على سبيل المثال، لكتاب الخيال العلمي قيمة كبيرة من خلال مساعدة الحكومات على تصور نوعية ردود فعل الأفراد والتعديلات المحتملة في سلوكهم، جرَّاء تنفيذ تقنية معينة يتعين استخدامها لحمايتهم.

ودائما ما يسأل كتاب الخيال العلمي أسئلة مثل: «ماذا لو»؟ (What if?)، فهذا السؤال العميق يدفع للبحث والاستقصاء وتنمية الخيال، وبالتالي إطلاق الطاقات الإبداعية الكامنة وتوليد الأفكار الثورية، المطلوبة للإجابة عن مسائل وقضايا ومشكلات علمية ومجتمعية مطروحة.

يرى كاتب الخيال العلمي البريطاني الشهير السير أرثر سي كلارك (1917 - 2008)، الذي تنبأ عام 1945 بفكرة «أقمار الاتصالات الصناعية» واستخداماتها المذهلة حاليا في السلم والحرب، أن رسالة الخيال العلمي ووظيفته تكمن في تنمية مخيلات الأفراد وتعليمهم ومنحهم القدرة على التفكير بالمستقبل؛ فهو وسيلة لإثراء خيال الإنسان ومنحه المزيد من المعرفة بآفاق المستقبل، كما يقوم الخيال العلمي بتحذير الأفراد وتهيئة أذهانهم إلى المخاطر التي قد تكون خافية عليهم، وذلك في ما يسمى ـنظام الإنذار المتقدم، الذي ينبئ عن الكوارث الوشيكة قبل وقوعها، كما أن لأدب الخيال العلمي رسالة اجتماعية أشد ارتباطا بالواقع، تتمثل في إثارة وتحريض خيال الأفراد، خاصة الشباب؛ حيث يأخذ بأيديهم ويقودهم ليستمتعوا بالاكتشافات والاختراعات العظيمة في دنيا العلم، كما ينبغي ألا نغفل عن حقيقة مهمة، هي أن أدب الخيال العلمي هو في الأساس نشاط إبداعي.

لقد لعب الخيال العلمي، وما زال، دورا مهما في تطور العلوم والاكتشافات الحديثة، فما بلغته البشرية من تقدم علمي وتكنولوجي مذهل في الوقت الحالي، كان في الكثير من جوانبه أحلاما وخيالا خصبا واعيا داخل وجدان الكثير من الأدباء والعلماء؛ فلو نظرنا للكثير من أحداث ومخترعات وعلوم العصر الحديثة، مثل الهبوط على سطح القمر وأشعة الليزر والذكاء الصناعي والروبوتات والقنبلة الذرية وزراعة الأعضاء البشرية وأطفال الأنابيب والهندسة الوراثية والعلاج الجيني والاستنساخ والنانوتكنولوجي (التقنيات متناهية الصغر)، والإنترنت وأقمار الاتصالات الصناعية وغيرها، لوجدنا أنها كانت يوما ما خيالات وأفكارا جادة تداعب أذهان الأدباء والعلماء ووجدانهم.

لقد نجح أدب الخيال العلمي في التنبؤ مبكرا بالكثير من الإنجازات العلمية المستقبلية، وفي تهيئتنا لاستقبالها، وكذلك في تحذيرنا من المخاطر والأحداث والآثار المستقبلية المحتملة وكيفية إعدادنا للتعامل معها.

لهذا ليس غريبا أن تهتم حكومات الدول المتقدمة بأدب الخيال العلمي وكتابه، ودورهم البارز في رسم وصناعة السياسات والقرارات.

فعلى سبيل المثال، وضمن اهتمام الحكومة الأميركية بدور الخيال العلمي في خدمة المصلحة الوطنية، استشارت وزارة الأمن الداخلي الأميركية مجموعة «سيغما» وطلبت منها مساعدتها على كيفية الاستجابة بشكل أفضل للتهديدات المحتملة، من خلال التعرف على الأفكار المثيرة لكتاب الخيال العلمي حول مراقبة الحدود والاستعداد للكوارث والأساليب الإرهابية والتقنيات المبتكرة لرصد الأحداث الكيميائية والبيولوجية عند حدوثها.

يقول الدكتور أندروز، مؤسس «سيغما»: «لا أريد من الحكومة فقط أن تستمع إلى كتاب الخيال العلمي، لكني أريد أيضا من كتاب الخيال العلمي، الذين هم مخترعون وعلماء وتكنولوجيون ومهندسون، أن يقدموا أفكارهم ورؤاهم إلى الحكومة». وإدراكا من القيادة السعودية لأهمية دراسات المستقبل وأفكار الخيال العلمي الجادة في صنع وتشكيل رؤى الحاضر والمستقبل، فقد كانت هناك دعوة سعودية لبعض أعضاء مجموعة «سيغما» للخيال العلمي، للمشاركة في جلسات منتدى التنافسية الدولي السادس الذي عُقد في الرياض، في الفترة من 21 إلى 24 يناير (كانون الثاني) الماضي، الذي حضره وشارك فيه أكثر من 100 متحدث عالمي في مختلف المجالات، من أصحاب الأعمال والقادة والمفكرين، لمناقشة القضايا ذات العلاقة بتنافسية الاقتصادات، ومنها: اقتصاد المملكة العربية السعودية، بهدف رفع مستوى الوعي والاهتمام تجاه تحديات التنافسية المحلية والعالمية، فقد ترأس الدكتور أرلين أندروز، مؤسس مجموعة «سيغما»، إدارة حوار جلسة في المنتدى، دارت حول التكنولوجيات الناشئة حديثا وإطالة الحياة، وتناولت كيفية استغلال رواد الأعمال للتقنيات الناشئة، مثل تكنولوجيا النانو والتكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية والطباعة ثلاثية الأبعاد والسفر التجاري للفضاء ومصادر الطاقة الجديدة، لتخليق تطبيقات وصناعات جديدة، كما تناولت الخيال العلمي كأداة مفيدة لرجال الأعمال المهتمين بتوقع فرص المستقبل في التكنولوجيات الناشئة، وكيف يمكن تقديم الخيال العلمي للعالم العربي.

ويبقى السؤال المهم: كيف يمكن في عالمنا العربي أن نغير منظورنا لأدب الخيال العلمي، من مجرد وسيلة ترفيه وتسلية، إلى الاهتمام الجاد به كعلم مستقبلي مهم يشكل الآن رؤى وصناعة الحاضر والمستقبل، ويدخل ضمن اهتمام سياسات حكومات الدول المتقدمة؟ وكيف يمكن إنتاج خيال علمي عربي جاد يمكنه أن يسهم في تشجيع وتعميق الاهتمام بدور العلوم والتكنولوجيا وأهمية التفكير العلمي في حياتنا، وكذلك في إيجاد حلول للكثير من مشاكلنا وقضايانا القومية؟