تمبكتو.. «جوهرة الصحراء» وحاضرة العلوم الإسلامية تدفع ثمن أحدث حروب أفريقيا

زارها ابن بطوطة وليون الأفريقي واختارتها اليونيسكو ضمن قائمة التراث العالمي

أحد أبناء الطوارق يقف إلى جانب مسجد في تمبكتو يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر (رويترز)
TT

وجدت مدينة تمبكتو، الواقعة في شمال مالي، قرب نهر النيجر وعلى تخوم الصحراء الكبرى، نفسها في خضم حرب هي أحدث حروب «القارة السمراء»، وذلك بعدما دخلها مقاتلون من الطوارق، ومعهم مقاتلون آخرون إسلاميون جهاديون في منطقة تشير فيها جهات غربية إلى نشاط ملحوظ لتنظيم القاعدة.

وكان الأمور المتوترة في شمال مالي، التي كانت في الماضي جزءا مما يعرف بـ«السودان الفرنسي»، قد بلغت حدا خطيرا مع وقوع انقلاب عسكري في العاصمة باماكو، على بعد نحو ألف كلم جنوب غربي تمبكتو، بسبب غضبة قطاع من الجيش على أسلوب السلطة الحاكمة في التعامل مع الثورة المسلحة لشعب الطوارق بقيادة الحركة الوطنية لتحرير آزواد. ومن ثم، اجتاح مسلحو الحركة تمبكتو يوم الأحد الفائت ودخلوها بمركباتهم الوعرية وأسلحتهم الرشاشة تحت خفق أعلامهم الرباعية الألوان (الأحمر والأخضر والأصفر والأسود)، بعدما كانوا قد سيطروا على معظم النصف الشمالي من مالي. ولكن مع رجال الحركة الوطنية لتحرير آزواد (في إشارة إلى الاسم المحلي للصحراء الكبرى وهو «آزواد»)، تشير التقارير إلى حضور لجماعة «أنصار الدين» الإسلامية الجهادية التي يقودها قيادي من الطوارق اسمه إياد آغ غالي، يسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، التي يشكل المسلمون الغالبية العظمى من سكانها.

ولكن ما هي تمبكتو؟

تمبكتو، وفق المصادر التاريخية والجغرافية، تعد إحدى أعرق حواضر الإسلام في أفريقيا، وكانت همزة الوصل بين شمال أفريقيا وباطن القارة، وعبرها كانت تمر واحدة من أهم طرق القوافل وتجارة الملح، ما جعل منها مركزا تجاريا تجري فيه المبادلات بين الصحراء والهضاب والأدغال، وكان الملح والبهارات والحرير والنحاس يأتي إليها وعبرها من ربوع المغرب العربي، بينما كانت تأتيها من الجنوب سلع كجوز الكولا والذهب والعاج، بجانب الرقيق.

وبفضل مكانة تمبكتو الدينية والثقافية والتجارية المميزة فقد حملت عبر القرون، منذ القرن الثالث عشر الميلادي، ألقابا، منها «مدينة الأولياء الصالحين الـ333» و«جوهرة الصحراء». مع الإشارة إلى أن مخطوطات قديمة تفيد بأن الطوارق هم الذين أسسوا المدينة بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وهو ما يفسر سبب إغفال مؤلفات الجغرافيين العرب القدامى، كالبكري والإدريسي، ذكرها بعكس «جارتها» ومنافستها غاو. غير أن الرحالة الشهير ابن بطوطة زارها عام 1353 وكتب عنها. ويومذاك كانت تمبكتو وغاو أبرز مدن ما عرف بـ«إمبراطورية مالي».

ومن ثم زارها وكتب عنها حسن الوزان، الفاسي الغرناطي، الشهير بـ«ليون الأفريقي»، نحو عام 1510، وقال عنها إنها المنطقة التي تفجرت فيها صبابته، حيث أعرس بها وكانت له بها منادمات، لم ينسه إياها بلاط البابا في روما، ولا رحلاته إلى الآستانة أو القاهرة، متابعا في مؤلفه الشهير عن أفريقيا، المنشور عام 1550: «إن الوصول إلى تمبكتو هو سر أسرارها، فقد كانت ملتقى القوافل الذي يربط أهل أفريقيا غربا وشرقا، وكان الوصول بحد ذاته يعني نوعا من المغامرة، حيث لا يربطها بأي من عواصم التجارة المشهورة أي محطات لمن يؤمها».

ومما ذكره في وصفها عبد الرحمن السعدي، مؤلف «تاريخ السودان»، الذي يعتبر مرجعا في تاريخ غرب أفريقيا، أنها حينذاك عام 1630 كانت «نقية ورائعة ومشهورة، مدينة مباركة، كثيفة النبات والحيوية». ومن آثارها المعمارية العريقة التي تشهد على تراثها الثقافي والديني؛ ثلاثة مساجد رممها الإمام العقيب في القرن الـ15، لكن اليونيسكو تعتبرها مهددة بزحف رمال الصحراء عليها، وهي: جامع تمبكتو الكبير الذي بناه في 1325 إمبراطور مالي ملك «الماندينغ» مانسا موسى بعد عودته من رحلة حج إلى مكة المكرمة. وجامع سنكُري الذي بنته إحدى السيدات المؤمنات من قبائل سركولو، وجامع سيدي يحيى الذي شيد عام 1400.

وفي مختصر شريط الأحداث التي تتابعت على المدينة، أنها غدت جزءا من «إمبراطورية مالي» في مطلع القرن الثالث عشر. وفي مطلع القرن الخامس عشر سيطر عليها الطوارق لفترة قبل أن تدخل تحت سلطة إمبراطورية الصنغاي التي ضمتها إليها عام 1468. ولكن في عام 1591 تمكن السعديون في المغرب، إبان حكم المنصور السعدي، من التغلب على الصنغاي في معركة تنديبي، وجعلوا تمبكتو عاصمة للمنطقة بدلا من غاو. غير أن المدينة استقلت بعد 1612 عن النفوذ المراكشي، وكانت هذه الفترة بداية أفول عصرها الذهبي. وبعد عقود من التراجع تبادلت السيطرة عليها فيها عدة قبائل وشعوب محلية، أخضعت للحكم الاستعماري الفرنسي في غرب أفريقيا عام 1893 على الرغم من المقاومة الباسلة من قبائل المنطقة بقيادة المجاهد محمد علي «الأنصاري»، الملقب بـ«أنقونا» (اغتيل عام 1897). وظلت كذلك حتى استقلال جمهورية مالي الحديثة عام 1960 بقيادة موديبو كيتا.

كان الأسكوتلندي الميجور ألكسندر غوردون لاينغ، عام 1826، أول من استكشف تمبكتو من الأوروبيين، وبين من عرفها وأحبها كثيرا الفرنسي رينيه كاييه. ولقد استحقت المدينة وضعها على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) عام 1988. كذلك اختارتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) «عاصمة أفريقيا للثقافة الإسلامية» عام 2005. وخلال السنوات الأخيرة، ظلت محطة سياحية تراثية مهمة، على الرغم من تراجع مكانتها على مستوى البلاد والقارة، ولاحقا ازدادت معاناتها بعد ما يذكر عن انتشار تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» في شمال مالي. ووفق وكالات الأنباء الأوروبية، كانت تمبكتو من المناطق الخطيرة التي دأبت معظم السفارات الغربية على تحذير رعاياها من زيارتها.

حاليا يقدر سكان تمبكتو، المنتشرة فوق كثبان رملية وتخترقها الطرقات المتربة، بين 35 و55 ألف نسمة، وهذا بعدما كانت مدينة مزدهرة حتى القرن الـ16م، تضم ما لا يقل عن 25 ألف طالب في 180 مدرسة قرآنية. أما تركيبتها السكانية فتضم «الأنصار» والطوارق وحلفاءهم والقبائل المتفرعة من الأشراف الأدارسة الآتين إليها من الشمال المغربي، وبعض القبائل الأخرى ذات الأصول الأفريقية وعلى رأسها الصنغاي.