«نصب الشهداء الأكراد» عمل نحتي معماري يحكي قصة ثورة شعب

الفنان الكردي خسرو الجاف لـ«الشرق الأوسط»: أنا مبدع كل ما هو غريب وأنجز أعمالا مستقبلية

الفنان خسرو الجاف عند مدخل نصب «الشهداء الأكراد» في أربيل («الشرق الأوسط»)
TT

فوق قمة جبل عند مدخل مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، من جهة مدينة كويسنجق، نحت الفنان والمعماري الكردي خسرو الجاف تحفة معمارية وفنية ترمز إلى شهداء الثورة الكردية.

«نصب شهداء الثورة الكردية» يتداخل فيه ما هو نحتي ومعماري في آن واحد، لكنه في العموم، وبتداخل العمارة والنحت، يكون عملا فنيا نحتيا، ويؤكد الجاف أن «العمارة هي في الأساس منحوتة في الهواء الطلق، وتمثل الهوية الثقافية والاجتماعية لأي شعب أو مجتمع، فما وصلنا من الحضارات الإنسانية العظيمة عبر التاريخ هي أعمال معمارية ونحتية كشفت لنا عن ثقافات ومستوى رقي حضارات الشعوب منذ سومر وبابل وآشور والماديين الأكراد، مرورا بالحضارات الإغريقية واليونانية، ووصولا إلى الإسلامية والشرقية».

الغرابة والتمايز والطابع الفني الثقافي هي توقيع الجاف على جميع أعماله المعمارية التي لا تفلت منها اللمسات الفنية، والنحتية خاصة، فما من بيت أو عمارة صممها ونفذها الجاف، سواء في بغداد أو مدن إقليم كردستان، إلا وتشد انتباه المتلقي باعتبارها عمارة غرائبية، حتى قيل إن أي عمارة غريبة تشاهدها في أي مكان في العراق فمن المؤكد أنها تحمل توقيع الجاف.

يعترف الجاف قائلا لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في محل إقامته أربيل: «نعم كل ما صممته وسأصممه يحمل طابعا معماريا غريبا، من استخدام الأعمدة إلى السلاسل الحديدية والشكل العام، انظر إلى بيتي هذا، وهناك منزل الدكتور محمد إحسان في أربيل، نعم هي أعمال معمارية لكنها تبدو كأنها منحوتة، تحمل طابعا فنيا نحتيا»، مستدركا: «أنا لا أفتعل الغرابة لغرض الغرابة، بل لأنني مؤمن بأن العمارة هي عمل فني على الرغم من أنه وظيفية، أي لها وظائف محددة ومعينة، أن تصمم منزلا يعني أن هذا المكان مخصص للسكن ولاستخدام العائلة، وهذا لا يمنع أن يكون هذا المنزل عبارة عن عمل فني يعكس في المستقبل ثقافتنا ورؤيتنا وصورة العصر الذي نعيشه اليوم»، مشيرا إلى أن لا يهدف من وراء وضع تصاميم المنازل إلى الكسب المادي، قائلا: «فأنا بدأت عملي أصمم مجانا للأصدقاء وما زلت، ما يهمني هو أن أصمم عملا فنيا يبقى ويشار إليه باعتباره عملا فنيا غريبا ومدهشا.. أنا مصمم الأعمال الغرائبية التي تثير دهشة المتلقي، ليس الدهشة لأغراض الدهشة بل لأن العمارة في العراق صارت مملة ومتشابهة ومبتذلة أحيانا، ولا يهمني عدد الأعمال التي صممتها أو أصممها، بل نوعيتها، لهذا ليس هناك أي تصميم يشبه الآخر، بل كل عمل هو عبارة عن قطعة فنية ذات نسخة واحدة، ولا أقبل أن يملي صاحب المشروع أو صاحب رأس المال شروطه علي، بل أنا أسمع منه ما يريده من استخدامات وأصمم وفق رؤيتي»، منبها إلى أنه «قد يبدو التصميم أو المنزل من الخارج قطعة فنية لكنني أهتم في الداخل بالحفاظ على المساحات كي يتسنى للساكن أو المستخدم للبيت أن يتمتع بمساحات بيته المتنوعة، معتمدا مواد محلية، كالصخور أو المرمر، لتأكيد جمالية البيئة وترفها في آن واحد، أما في الخارج فأضع لمساتي الفنية البحتة مستخدما السلاسل أو الصخور. أنا باختصار أنحت البيت كما يفعل النحات تماما في الصخر. أنا باختصار أنجز أعمالا مستقبلية، أعمل للمستقبل».

ويؤكد فلسفته حول «الهوية الفنية للعمارة» بقوله: «في غالبية دول العالم يدرس الطلبة العمارة في الأكاديميات والجامعات الفنية وليس في جامعات هندسية، أنا درست العمارة وتخصصت بها في جامعة طهران للفنون الجميلة. وفي عموم أوروبا، خاصة في ألمانيا والنمسا، تدرس العمارة في كلية الفنون الجميلة باعتبارها نمطا خالصا من الفنون الإبداعية، فمن الممكن أن يتخصص أي شخص في الهندسة الكهربائية أو الفيزيائية أو غيرها من علوم الهندسة، لكن العمارة فن خالص ولا يبدع فيها إلا الفنانون. قد يكون هناك معماريون بارزون وهم لا علاقة لهم بالفن، لكن إنجازاتهم اعتيادية، يصممون وفق مقاييس علمية بحتة وتأتي النتائج صحيحة تماما، فكم هناك في العالم من معماريين، لكن من بين عشرات أو مئات الآلاف من المعماريين في العالم هناك أسماء نادرة أبدعت في فن العمارة وبقيت أعمالهم يشار لها باستمرار على أنها أعمال معمارية فنية».

ما يؤكد هذه النظرية أو هذا المفهوم (العلاقة بين الفن والعمارة) هو أن هناك بالفعل أسماء قليلة من المعماريين الذين ينظر إلى إنجازاتهم كأعمال فنية، وخير مثال على ذلك المصممة المعمارية العراقية زها حديد، التي تحمل تصاميم كثيرة معمارية وغير معمارية توقيعها، وفي هذا التداخل بين ما هو معماري ونحتي فإن المعماري العراقي عدنان أسود الذي له أعمال معمارية متميزة ببغداد، يعد في الوقت ذاته واحدا من النحاتين البارزين في حركة التشكيل العراقية، بل إن هناك أعمالا نحتية نفذت بأسلوب معماري وهي من تصميم فنانين تشكيليين وليس معماريين، مثل «نصب الشهيد» للفنان الراحل إسماعيل فتاح، و«نصب الجندي المجهول» للفنان الراحل خالد الرحال.

يأخذنا الفنان والمعماري خسرو الجاف إلى مملكته، إلى النصب الرابض فوق قمة الجبل في منطقة (كزكزان).. النصب يبدو عن بعد هناك فوق قمة الجبل كمعلم من معالم أربيل، هناك نرتقي إليه، نتسلق المسافة من الشارع الذي خصص له حديثا حتى الساحة الأمامية التي تضم شواهد قبور ترمز لشهداء الثورة الكردية «360 قبرا رمزيا.. وكل قبر يرمز لألف شهيد»، يقول الجاف موضحا: «لقد أزلنا أجزاء كبيرة من الصخور من هذه القمة ليكون الموقع صالحا لإقامة النصب عليه، فنصب مثل هذا يجب أن يكون في موقع عال ليتناسب مع مكانة الشهداء، ذلك أن حضارات ما بين النهرين كلها ارتقت بما كانوا يعتقدونه مقدسا ومهيبا وأقاموا له الصروح العالية، خذ زقزورة أور، مثلا، أو برج بابل، أو قلعة أربيل موطن الإلهة عشتار، حتى الحضارة العربية الإسلامية التي قامت في وادي الرافدين انتهجت الأسلوب ذاته، وهكذا نرى مئذنة الملوية في سامراء التي هي عمل نحتي بحت أكثر منه معماريا».

يبدو النصب مثل صقر ضخم رابض فوق الجبل يفتح جناحيه العريضين لحماية الشهداء الأكراد، بينما يبدو التاج الذهبي الذي يحمل شعلة النار مثل رأس الصقر الشامخ، وأمام هذا التشكيل النحتي تقوم أربعة أهرامات زجاجية زرقاء: «هذه الأهرامات ترمز لأجزاء كردستان الكبرى: كردستان الجنوبية كردستان العراق، والشمالية (تركيا)، والغربية (سوريا)، والشرقية (إيران)»، حسب إيضاح الجاف الذي يستدرك قائلا: «وعلى يمين النصب هناك أكبر تمثال منحوت من البرونز في عموم العراق، وهو تمثال الشهيد أو المقاتل الكردي (البيشمركة) حاملا بندقيته ومصابا، لكنه يبقى واقفا لا يسقط محميا بأربعة أسود تحيط به من الجهات الأربع، وهذه الأسود هي الأخرى ترمز لمكونات كردستان الكبرى».

قبل الدخول إلى مرافق النصب يرينا الجاف منحوتة كبيرة من المرمر: «أضخم كتاب منحوت من المرمر الأبيض ويمثل سجلا لأسماء الشهداء من غير أن يوضع أي اسم في هذا الكتاب»، يقول: «كل المنحوتات في هذا النصب من المرمر الأبيض أنا قمت بها، منحوتات يدوية استغرق العمل فيها ست سنوات، وهو عمر العمل في إنجاز النصب الذي صممته ونفذته بنفسي، عشرات من الأعمدة ذات التيجان المنحوتة برؤوس حيوانات أسطورية، إضافة إلى منحوتتين لحيوانين أسطوريين مستوحاتين من حضارة الماديين الأكراد، فالأكاذيب التي تنكر على الأكراد أنهم قوم ينتمون إلى حضارة - هي شوفينية ومغرضة، بالتأكيد لنا حضارة وحضارة رائعة ومؤثرة».

في داخل النصب تتوزع صالات ومنحوتات ومتاحف، وقاعتا مسرح شتوية وصيفية، وصالات شرف، كما تتوزع مساحات جدارية للوحات ضخمة مساحة الواحدة 40 مترا مربعا لم تنفذ حتى الآن.

بقي أن نعرف أن خسرو الجاف هو ليس نحاتا ومعماريا فحسب، بل هو رسام وشاعر وروائي وباحث في الفلكلور الكردي أيضا، وينحدر من عائلة عرفت باهتمامها الثقافي والإنجاز المعماري.

«نصب شهداء الثورة الكردية» سيتم افتتاحه بعد إنجاز اللوحات المرسومة، وهو يقوم فوق أرض مساحتها 25 دونما بتكلفة تقترب من 19 مليون دولار، يقول الجاف: «أنا لم أتقاض أجوري كمصمم أو عن أعمالي النحتية، وكل الفضل في إنجاز هذا الصرح الفني يعود للأخ نيجيرفان بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان، الذي رعى هذا العمل منذ أن صممته وحتى اليوم».