السينما الفرنسية تستعيد أمجاد الماضي

انطلاقة جديدة للفن السابع في فرنسا.. وانتعاشة رغم تصفية بعض شركات الإنتاج والتوزيع

فيلم «لي زانتوشابل» أو «المنبوذون» سجل أعلى الإيرادات وشاهده أكثر من 19 مليون متفرج و فيلم «ذا أرتيست» أو «الفنان» الذي حصد ست جوائز في حفل الأوسكار الأخير
TT

ماذا يحدث للسينما الفرنسية؟ هذا السؤال شغل وسائل الإعلام التي باتت لا تصدق ما يحدث لـ«الفن السابع» في فرنسا.. نجاحات فنية وتجارية كبيرة، وأمجاد تستعاد بعد غياب سنوات طويلة ليس فقط داخل البلاد، بل خارجها أيضا. آخرها كان النجاح المذهل الذي حققه فيلم «ذا أرتيست» أو «الفنان» الذي حصد ست جوائز في حفل الأوسكار الأخير، متقدما على إنتاجات هوليوود الضخمة، كما استحوذ على ترحيب الجمهور والنقاد الذي كان إيجابيا.

الأهم هو أن النجاح كان كاسحا، على الرغم من مشاكل كثيرة تعرضت لها السينما الفرنسية بعد تصفية مجموعة «كانتا» التابعة لرجل الأعمال والمنتج طارق بن عمار، المكونة من عدة شركات توزيع وإنتاج كانت المسؤولة الأولى عن توزيع معظم الأفلام الفرنسية.

السينما الفرنسية التي تبدو وكأنها تستعيد تألقها الذي عرفته مع مخرجين ككلود شابرول، وفرانسوا تروفو أو كلود لولوش تعود من بعيد، خاصة أن البعض كان قد تنبأ بموتها بعد حقبة التسعينات التي عرفت طفرة القنوات المتخصصة وتحميل الأفلام. هذه التوقعات أكدتها الأرقام الأخيرة للمعهد الوطني لصناعة السينما (سي إن سي) الذي كشف عن أن عدد التذاكر التي بيعت في دور العرض الفرنسية عام 2011 بلغ أكثر من 215 مليونا، وهو ما يمثل زيادة 2% على ما وصلت إليه عام 2010. الرقم قياسي لكن انتعاشة الفن السابع هي ظاهرة آخذة في التواصل منذ بضع سنوات. فقد سجلت دور العرض الفرنسية بيع أكثر من 206 ملايين تذكرة عام 2010 و230 مليونا عام 2009، وهي كلها أرقام جيدة لم تحققها السينما الفرنسية منذ سنوات الثمانين حين كان التلفزيون الفرنسي لا يملك أكثر من 3 قنوات.

حصاد السنة كان جيدا بفضل أعمال طموحة وذكية نجحت في جذب الجمهور وتخطي عتبة المليون متفرج، على الرغم من ميزانيات متواضعة، بدأ بفيلم «بوليس» للمخرجة الشابة «مايوين» الذي تروي فيه يوميات عناصر شرطة حماية الأحداث برؤية إنسانية، وهو ما جذب أكثر من مليوني متفرج. وفيلم «الحرب المعلنة» الذي عالج بقالب فيه الكثير من المرح والتفاؤل قصة زوجين شابين يواجهان مرضا خطيرا يصيب ابنهما الرضيع، وهو الفيلم الذي شاهده 2.5 مليون متفرج. إلى غاية فيلم «لي زانتوشابل» أو «المنبوذون» الذي سجل أعلى الإيرادات وشاهده أكثر من 19 مليون متفرج، حتى أصبح ثاني أكثر الأفلام الفرنسية مشاهدة بعد كوميديا داني بون «مرحبا عند الشتي» التي شاهدها ما لا يقل عن 20 مليون متفرج وحققت إيرادات بلغت 194 مليون دولار (في فرنسا وحدها) متبوعا بـ«لاغراند فادروي» أو «الرحلة الكبيرة» من تمثيل الراحلين بورفيل ولويس دو فوناس، الذي شاهده عام 1966 أكثر من 17 مليون شخص.

الأدهى هو أن ميزانية «لي زانتوشابل» الذي أنتجته شركة صغيرة تسمى «كواد برودكسيون» لم تتعدَّ الـ9 ملايين يورو، بينما بلغت إيراداته حتى الآن 114 مليون يورو.

عن أسباب هذه الانتعاشة الجديدة التي يعيشها الفن السابع في فرنسا يلاحظ المختصون أن السينما الفرنسية تأخذ، منذ سنوات، منعطفا جديدا به نزعة نحو التنوع والمغامرة، مبتعدة تماما عن الصورة التي لازمتها طويلا كسينما روائية واقعية مملة قد تحصد بعض الجوائز لقيمتها الفنية، لكنها لا تملأ دور العرض ولا تلاقي الإقبال الشعبي.

التغيير جاء أولا من جانب كُتاب السيناريوهات الذين أصبحوا أكثر جرأة وفي الوقت نفسه أكثر اقترابا من اهتمامات المتفرج البسيط. يقول جيريمي ألكايم، ممثل وكاتب سيناريو «الحرب المعلنة»: «المواضيع وحدها لا تصنع شهرة العمل، بل إن التميز يأتي من طريقة تناولها، وقد ظللنا طويلا نكتب ونحن مشلولون نخشى ضربة النقاد..»، وما يبدو هو أن تحرر الكتاب لم يكن لصالح إشكاليات معينة. فالأفلام قد تكون كوميدية كـ«أستيريكس وأوبيليكس» أو «ريان دكلاريه» أو تراجيدية اجتماعية كـ«لي زانتوشابل» و«بوليس»، لكن بها كلها جرعة متوازنة من الجرأة والتميز تجعلها تروق إعجاب الغالبية. الدليل أن جرأة المخرج ميشال أزنفيزيوس مخرج فيلم «تي أرتيست» الذي غامر في زمن الإنتاجات الهوليوودية الضخمة بفيلم صامت بالأبيض والأسود كوفئت بجوائز فنية مهمة كالأوسكار وإقبال جماهيري بلغ أكثر من 1.5 مليون متفرج.

الوصفة الثانية توجد عند المنتجين الذين أصبحوا أكثر إقبالا على مساندة مشاريع المخرجين الشباب. المنتج ألان أتال لم يقف مكتوف اليدين أمام رفض قناة «إم 6» دعمه بنحو 500 ألف يورو لاستكمال ميزانية فيلم «بوليس» للممثلة والمخرجة الشابة مايوين، بل أكد ثقته لها وغامر ببيع أسهم من شركاته من أجل استكمال الفيلم، تماما كما فعل في السابق مع فيلم «الحفل» أو «لوكونسار» الذي حقق أعلى الإيرادات واستقطب 3 ملايين متفرج. يضيف هذا المنتج: «بعد النجاح الذي لاقته قصة ثلاثة رهبان يواجهون الموت (رجال وآلهات.. 3 ملايين متفرج) وقصة صداقة بين مشلول غني وشاب أسود من الضواحي الفقيرة (لي زانتوشابل.. 18 مليون متفرج) أصبحت شركات الإنتاج تدرس باهتمام أكبر كل المواضيع التي تخرج عن المألوف».

المبادرة نفسها تقوم بها قناة «كنال بلوس» التي تنتج جزءا كبيرا من المشاريع التي تظهر على الساحة الفنية الفرنسية. مانويل أولدوي، مدير قسم مقتنيات القناة السينمائية، كشف عن أن جميع منتجي «كنال» تلقوا منذ عام 2006 الضوء الأخضر للاهتمام بالمشاريع المتميزة التي تعالج مواضيع جديدة دون النظر لاعتبارات أخرى كإيرادات المخرج أو شهرة الممثلين.

لكن المفاجأة الكبيرة كانت نجاح السينما الفرنسية في الخارج أيضا وتحديدا في هوليوود. ففيلم «ذا أرتيست»، الذي يروي قصة ممثل يفشل في التأقلم مع مرحلة السينما الناطقة، حصد 6 جوائز في مهرجان الأوسكار الأخير، منها جائزة أحسن ممثل لجان دو جاردان الذي فاز بها على حساب النجمين جورج كلوني وبراد بيت، وجائزة أحسن إخراج وأحسن موسيقى تصويرية. و3 جوائز في الغولدن غلوب، أهم المهرجانات السينمائية الأميركية بعد الأوسكار، منها جائزة أحسن فيلم كوميدي وأحسن موسيقى وأحسن ممثل كوميدي مرة أخرى لبطله جان دو جاردان بعد 20 سنة من آخر جائزة تلقاها زميله جيرار دو بارديو عن دوره في فيلم «ذا غرين كارد»، إضافة للجائزة البريطانية «لندن كريتيك سركلر» كأحسن فيلم وأحسن ممثل وأحسن مخرج والسعفة الذهبية في مهرجان كان الدولي. النجاح نفسه يلقاه «لي زانتوشابل» الذي يتم عرضه حاليا في القاعات الأوروبية، بكثير من الإقبال في دول كألمانيا (400 ألف متفرج) وبلجيكا (600 ألف متفرج)، وسويسرا (450 ألف متفرج).