مقهى «المسيري» في دمنهور.. سجل الثقافة المصرية

على طاولاته كتب الحكيم ويحيى حقي.. وزاره طه حسين وهدى شعراوي والسادات

صورة للمقهى من الخارج
TT

«كان يسير حاملا كتابا في يد وصينية المشاريب في يده الأخرى».. هكذا كانت حياة الأديب القهوجي عبد المعطي المسيري، الذي خلق من «مقهى المسيري» البسيط بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة (شمال مصر)، حالة اجتماعية ثقافية سياسية فريدة في بدايات القرن العشرين، وأصبح المقهى ملتقى نجوم الأدب، زاره طه حسين ويحيى حقي ومحمود تيمور ويوسف السباعي ومحمود البدوي، والرئيس السادات، وعلى رصيفه كتب توفيق الحكيم بعض صفحات من مسرحية «أهل الكهف» و«شهرزاد»، وفصولا من روايته «يوميات نائب في الأرياف» حينما كان وكيلا للنائب العام في محافظة البحيرة.

حارب المسيري الفقر وقاوم نظرة أبناء عشيرته ذوي العقلية التجارية، وحول المقهى الذي ورثه عن والده إلى بؤرة ثقافية تستقطب المثقفين من كل أنحاء القطر المصري ليصبح المعلم الأشهر في مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة. بمجرد نزولك من محطة القطار ستجد «مقهى المسيري» الكائن بشارع الأميرة فوقية (23 يوليو حاليا) أشهر مكان بها، للجلوس والاستمتاع بمطالعة كتاب مع كوب من الشاي الساخن أو فنجان قهوة برائحة الأدب.

فمن هنا تخرج أدباء لهم ثقلهم وبصمتهم الأدبية وتشكلت آيديولوجية خيري شلبي ورجب البنا وتخرج فيه أدباء مثل محمد صدقي، وأمين يوسف غراب، وإسماعيل الحبروك، والشعراء حامد الأطمس وفتحي سعيد وغيرهم.

وقد رحل الأديب القهوجي يوم وفاة الزعيم جمال عبد الناصر في صمت بعد رحلة كفاح أدبية أثمرت 11 كتابا و600 قصة قصيرة لم يبق منها سوى كتاب محفوظ في مكتبة الكتب النادرة في مكتبة الإسكندرية. يحتضن المقهى منذ 11 عاما مكتبة تابعة لوزارة الثقافة أسسها محافظ البحيرة وقتها أحمد الليثي، وبها آلاف الكتب في شتى المجالات، ويقوم عليها مندوبان من وزارة الثقافة المصرية، إلا أن المكتبة تفتقر إلى كتب الأديب القهوجي! ويحكي الحاج إبراهيم المسيري ابن عم الأديب القهوجي، لـ«الشرق الأوسط»، قائلا: «ولد المسيري في فبراير (شباط) 1909 في أحد الأحياء الشعبية بدمنهور، وعمل مع والده في المقهى الذي ورثه عن جده وكان اسمه (رمسيس) والذي اشتهر في ما بعد بـ(مقهى المسيري). كافح وعلم نفسه وأخذ ينهل من بحور الأدب حتى أنه لم يكن يترك أي رواية تصدر إلا ويشتريها. كانت ورديته في المقهى تمتد 8 ساعات فكان يقضيها ومن حوله الأدباء، لم يكتف بقراءة نيتشه وماكسيم جوركي وتشيكوف والمازني، بل أصدر العديد من الكتب والتي كانت تباع بـ6 صاغ وكانت تنفد كلها».

أثار إعجاب عميد الأدب العربي طه حسين الذي قال عن أحد كتبه «أشهد أنني قرأته مرتين ووجدت لذة ومتاعا خصبا، وأحسست إعجابا عظيما بهذا الرجل الذي استطاع أن يثقف نفسه.. ولم يجلس إلى أستاذ، أصبح من خير الأساتذة».. فقدم له طه حسين كتابه «في معالم الأدب العربي».

ولما ذاع صيته تعاقدت معه «إذاعة لندن» العربية التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية لتسجيل قصصه القصيرة، مقابل خمسة جنيهات عن القصة الواحدة، وبالفعل كان وقت إذاعتها في المساء تجلس الجموع الغفيرة في المقهى ملتفة حول المذياع لسماعها. وقد كرمه أول مؤتمر لأدباء مصر في الأقاليم عام 1984 ومنحته وزارة الثقافة المصرية شهادة تقدير تقديرا لدوره المهم في خدمة الأدب المصري المعاصر.

ومن المواقف الطريفة التي يتذكرها الحاج إبراهيم أنه «في عام 1938 حينما أراد الكاتب الكبير يحيى حقي زيارة المسيري بعدما ذاع صيته في القاهرة، راسل المسيري واتفق معه على موعد لزيارته، ولما جاء حقي ليبحث عن ذلك المثقف العصامي دخل بالخطأ (مقهى الخوالقة) والتقى بصاحب المقهى محمد ووجده لا يعرف شيئا عن الأدب، فعاد حزينا للقاهرة وكتب مقالا يقول فيه إن هذا المسيري ما هو إلا قصة وهمية لا وجود له. فرد عليه المسيري بمقال في جريدة (الوادي) قائلا (قزمان على الحبل لا يلعبان) فتدارك حقي هذا الخطأ وعاود زيارته وتوطدت علاقتهما بعدها».

وروى الحاج إبراهيم قصة تعرف المسيري على توفيق الحكيم والتي جاءت حينما أحيل المسيري للتحقيق بسبب مقال كتبه حينما كان عضو مجلس بلدية دمنهور، يطالب فيه بتغيير اسم «شارع فؤاد» إلى «شارع عرابي»، فتم تحويله للنيابة وكان الحكيم وقتها وكيل نيابة دمنهور، وحينما تحدث معه أعجب بشخصيته وكي يحاول تخليصه من براثن المحاكمة قال عنه «إنه من الدراويش» وبعدها أصبح من زبائن المقهى الدائمين، و«أعرف أنه يعشق شرب الينسون». والطريف أنه بالفعل تحول اسم الشارع إلى «شارع عرابي» بعد ثورة 52.

ويفخر إبراهيم المسيري بصورة الرئيس السادات حينما زار المقهى في عهد عبد الناصر قبل أن يتولى الرئاسة، وذلك بعد خطاب أرسله المسيري إلى عبد الناصر يعاتبه على عدم اهتمامه بثقافة الأقاليم ومبدعيها، مفادها «لا بد من تفتيت الإقطاع الثقافي المسيطر في القاهرة»، فأرسل له السادات عضو مجلس قيادة الثورة رئيس تحرير جريدة «الجمهورية» آنذاك، وتحدث السادات مع أدباء دمنهور وشارك في إحدى الندوات الثقافية، وسلمه السادات رسالة من عبد الناصر يعبر فيها عن مدى تقديره للدور الرائد الذي يقوم به عبد المعطي المسيري.

وبصوت يحمل الحنين إلى أيام مجد المقهى، يتابع «كان المسيري يقيم يوميا إفطارا جماعيا طوال شهر رمضان، وكان المسيحيون يجلسون على الموائد جنبا إلى جنب معنا، وكان على رأسهم أبونا بولس، والمصور الأرمني فرام، والمصوران نجم وبترو وجوزيف حنا الذي كان من تلاميذ المسيري». يضيف إبراهيم «ابن عمنا الدكتور عبد الوهاب المسيري كان دائم التردد على القهوة وعقد لقاءات عليها، وشهدت القهوة لقاءات حركة (كفاية) المعارضة، وكان آخرها قبل وفاته بشهر واحد».

المثير في «مقهى المسيري» أنه كان أول المقاهي التي يقوم عليها مصري، حيث كان أغلب المقاهي والمطاعم آنذاك يونانية وأوروبية. ويعتبر مبنى المقهى أول المباني الخرسانية في مدينة دمنهور تلاه مبنى البلدية والإسعاف والاتحاد الاشتراكي (أمن الدولة حاليا) بحسب الحاج إبراهيم المسيري، الذي يضيف «المنفلوطي والمسيري حظهما تعس، فقد ماتا من دون أن يلقيا الوداع اللائق بهما، حيث توفي المنفلوطي يوم وفاة سعد زغلول، والمسيري يوم وفاة عبد الناصر فتناساهما الناس».

المقهى كان مفجرا للعديد من المظاهرات السياسية وأكبرها التي خرجت عام 1948 وضمت الشيوخ والقساوسة، وتبرع المسيري وقتها بربح المقهى لصالح تسليح الجيش المصري. «ذلك الزمان لا يعوض، لم تعد الكتب تلقى الاهتمام كالماضي، كان للأدب والأدباء شنة ورنة».. تلك قناعة الحاج إبراهيم. أصبح المرشحون لمنصب الرئاسة يتهافتون في هذه الأيام لعقد لقاءات شعبية بالمقهى، يقول الحاج إبراهيم «الأحاديث على رصيف القهوة كلها أصبحت سياسة، خاصة بعد ثورة 25 يناير في مصر وثورات الربيع العربي».

ويستحضر الكاتب الصحافي الكبير رجب البنا صورة المسيري قائلا «رجل قصير.. وجه ضامر.. نظارته غليظة.. ملابسه متواضعة.. طيب القلب»، ويتابع: «تعرفت عليه في الخمسينات وكنت حينها في السنة الأولى بكلية الآداب بالإسكندرية، وكانت شخصية عبد المعطي المسيري مثيرة جدا، فهو على الرغم من عدم حصوله على شهادة رسمية لكنه أصبح أحد أهم الكتاب في الثلاثينات من القرن العشرين. وحينما أعطيته أول مقال لي فوجئت بنشره في جريدة (المستقبل)، لذا فأنا أعتبر المسيري أستاذي الأول، لأنه من عرفني على أدباء العالم فقد كان ينفق أمواله على الكتب وبخاصة المترجمة وكان يعشق تشيكوف وجعلنا نعشقه فقرأنا كل أعماله، قرأنا معه نجيب محفوظ وكنا نتبادل (الثلاثية) حتى أنها تقطعت في أيدينا، كنا مفتونين به حتى أننا كنا نذهب للقائه في القاهرة ونحرص على حضور ندواته كل يوم جمعة في (كازينو بديعة) بميدان الأوبرا».

ويضيف «كنا نتابع كل ما يصدر في القاهرة، وعلى يديه تأسست أول جمعية أدباء في الأقاليم فكونا جمعية (أدباء دمنهور) في قلب المقهى، وكنت سكرتيرها وكنت في السنة الثانية الجامعية. وكنا نجمع الاشتراكات ونقيم الندوات وندعو الأدباء ونحجز لهم فنادق للمبيت في الإسكندرية نظرا لأن دمنهور لم يكن بها فنادق. حتى أننا عملنا ندوات في السجن وفوجئنا بوجود عدد كبير ممن لديهم موهبة الشعر بين السجناء فكانت أمسيات رائعة وكان مأمور السجن معجبا بها جدا، خاصة أن سلوك المساجين تحسن كثيرا.. كنا نعقد ندوات في الكنيسة وفي الجوامع، ساعد على ذلك وجود أبونا بولس وكان مهندسا مثقفا، والشيخ الطنوبي شيخ مسجد التوبة أكبر مساجد دمنهور، وكان كلاهما يتبادل الخطب في الكنائس والجوامع، كانت دمنهور تعيش أجواء ثقافية رائعة».

ويستطرد «تلك الفترة كانت غاية في الخصوبة الفكرية وأخرجت القهوة خيري شلبي وفتحي سعيد والأطمس، وسعيد أبو النصر. وعلى الرغم من فقر عبد المعطي المسيري، فإنه كان يعكف على مساعدة شباب الأدباء ووضعهم على أول الطريق، ورغم أن لديه أربعة أبناء لكنه اهتم بنا أكثر منهم، وكان يلقى كل الاحترام والتقدير من جميع المثقفين في مصر. وأذكر الندوة الكبيرة التي عقدها محمود تيمور ويومها تناول الغداء في منزلي، وتوطدت علاقتي به وزرته بفيلته في جناكليس وكان يدعوني دائما في تريانون، ونشر لي قصة كاملة في مجلة (المساء) على صفحة كاملة».

ويروي «كان على رصيف القهوة خاصة في الصيف مجموعات كبيرة من الأدباء والكتاب والصحافيين وكانت الندوات تمتد حتى الفجر، وكان من زوارنا عبد المعطي حجازي وأنور عبد الملك وصلاح عبد الصبور، والدكتور علي الراعي، وزكريا الحجاوي، كانت القهوة سببا في نهضة ثقافية كبيرة امتدت حتى ربوع مصر، وذاع صيتها وانتشرت الفكرة في عدد من المحافظات وبدأت تجربة مثلها في الإسكندرية في شارع صفية زغلول، فبدأ بائع لب وسوداني يدعى رجب نفس الفكرة، ثم في الزقازيق بائع فاكهة وهو مرسي جميل عزيز الذي كان يكتب أغاني لكبار المطربين في العالم العربي ولقب بشاعر (الألف أغنية)».

يصمت قليلا ثم يستكمل «كانت مقالاته تملأ الصحف المصرية، ومنها جريدة (القاهرة) التي كان يرأس تحريرها طه حسين، وجريدة (السياسة) وغيرها، لكنه لم يستطع العيش في القاهرة بسبب ارتفاع المعيشة، فعاد إلى دمنهور. ثم عاد للقاهرة مرة أخرى حينما عرض عليه يوسف السباعي الذي كان وقتها سكرتير (نادي القصة) والمجلس الأعلى للفنون والآداب، وظيفة بـ10 جنيهات شهريا ولكنه كان سعيدا بقربه من الكتاب الكبار. ولكن للأسف توفي في القاهرة بحي إمبابة الشعبي في وقت وفاة عبد الناصر فلم يدر بوفاته أحد حتى أقرب المقربين له، لأن البلاد كانت في حالة شلل تام ولم تكن هناك حتى وسائل مواصلات».

وبأسى شديد، قال البنا «لا أعتقد أن القهوة قد تعود إلى سابق مجدها بسبب نقمة أولاده على الثقافة بسبب معاناتهم مع المسيري في رحلته الأدبية، كذلك لا يملك أحدهم الكاريزما التي تميز بها، لكن لا تزال علاقتي بأبنائه قوية ونتواصل معا باستمرار».

ورغم الأهمية الثقافية لذلك المقهى، لكنه يعاني من التجاهل والإهمال مما دفع أحد أبناء دمنهور، الباحث بمكتبة الإسكندرية، عبد الوهاب شاكر، لمحاولة أرشفة ما يقع بين يديه من مقالات وصور وخطابات وكتب تخص المسيري. ويقول «وجدت كتابه الوحيد في مكتبة الكتب النادرة في مكتبة الإسكندرية والذي يحمل عنوان (في القهوة والأدب.. دراسات أدبية، بحوث اجتماعية، قصص مصرية)، والصادر عن مطبعة (الشعب) سنة 1936. وحاولت بالتنسيق مع الحاج إبراهيم أرشفة كل ما يخص الأديب القهوجي خشية أن يضيع كما ضاعت كتبه، وأرجو أن تعيد إحدى دور النشر إصدارها، نظرا لقيمتها وثرائها فهي تجسد حقبة مهمة من تاريخ الثقافة المصرية، وللأسف معالم المقهى القديمة تبدلت وضاعت ولم يبق منها سوى الصور بعد أن باع أبناء المسيري مكتبته العامرة!».

ولعل ما يوجز حياة هذا الأديب القهوجي ما جاء في كتابه «الظامئون» حينما كتب لابنه: «ولدي.. ما من مرة قبلتني إلا وأحسسنا معا بأننا قد عشنا كل ما في وسع الإنسان أن يعيش وظفرنا بكل ما في الوجود من نعيم، وقبلة منك تجعلني أستقبل الحياة بعزم جبار، وتهون عليّ أثقالها وأعباءها.. وتنسيني تجهمها وهمومها.. وتصعد بي إلى دنيا غير دنيا الناس».