مهرجان الخليج السينمائي-4: نجوم الغانم تتناول حياة تغترب وتُبدع

لقطة أولى: شيء أو شيئان عن السيناريو يحومان حول المهرجان

أمل حويجة
TT

* 3 سينمائيين عرب، هم محمد خان (مصر)، وفريد رمضان (البحرين) وميشيل كمون (لبنان) اشتركوا في هذه الدورة بإعداد أصحاب المشاريع السينمائية الخليجية لخطواتهم في عالم السيناريو.

إنها ورشة عمل دعا إليها المهرجان وخصص لها جانبا من مهامه تحت عنوان «سوق سيناريو الفيلم القصير»، تنص على أن يتقدم أصحاب المشاريع والأفكار بصياغاتهم إلى هذه اللجنة الثلاثية فتستمع اللجنة لهم وتنصحهم بالتعديلات أو التغييرات المطلوبة تمهيدا لإعادة صياغة السيناريوهات قبيل البحث عن التمويل وتسويق الفيلم.

وقبل يومين تم عقد لقاء مفتوح ضم أعضاء اللجنة وبعض المسؤولين عن المهرجان لجانب معظم الكتاب الذين تقدموا بمشاريعهم بالإضافة إلى الجمهور. وقام كل صاحب مشروع بسرد تلخيص لمشروعه مشفوعا بكلمة عن الهدف أو الغاية من وراء هذا السيناريو أو ذاك.

وإذ توالى الكتاب الطامحون من السعودية وعُمان والبحرين وقطر والإمارات والعراق، بدا واضحا أن نقطة القوة تكمن في أكثر من ناحية، هناك الفرصة التي يوفرها هذا المهرجان لهؤلاء المبتدئين، ثم هناك المبتدئون أنفسهم وهم في غاية الجد والسعي.

إلى ذلك، هناك ملاحظتان مهمتان تم لهذا الناقد تسجيلهما؛ الأولى أن الكاتبات النساء كن أفضل في تقديم أفكارهن أمام الجمهور من الرجال. في الحقيقة الأكثر رتابة وإثارة للملل توزع على عدد من الكتاب الذكور الذي كان بعضهم يسرد قصته كما لو أنه مل التفكير فيها أو كما لو كان يتحدث عن موضوع بعيد عنه لا يشعر صوبه بأي تقارب.

الملاحظة الثانية هي أن معظم هذه السيناريوهات المقدمة تدور حول أولاد ما بين العاشرة والثالثة عشرة من العمر. قليل منها عن أشخاص راشدين. وهذه الملاحظة تقود إلى أسئلة: هل السبب يكمن في الرغبة في التعبير عن الطفولة والمستقبل الطري والبراءة المناطة؟ أم أن هناك سببا آخر أهم؟

الحقيقة أنه لا يمكن اعتبار أن الرغبة في التعبير عن عالم الطفولة ومستقبله هي الأساس لأن الكثير من هذه القصص (وهذه تصلح لتكون ملاحظة ثالثة) تدور في منتصف القرن الماضي (الخمسينات والستينات) بحيث مستقبل ذلك الحين بات ماضي هذه الأيام والرسالة بالتالي لن تصيب غايتها المنشودة.

السبب الحقيقي، مقصودا أو نصف مقصود، هو أن التعامل مع الشخصية - الطفل هو أسهل للكاتب، خصوصا إذا ما كان جديدا، ذلك لأن الشخصية بين يديه منصاعة لقراره، ليس فيها عقد الراشدين النفسية والاجتماعية والعاطفية. خالية من الشوائب وأسهل في نسيجها الدرامي.

إنه خلاص صوب البساطة إلى أن نضيف أن هذه الكتابات ستؤول إلى التنفيذ وأن منفذيها هم كاتبوها. بالتالي، هو خلاص مؤقت فحتى معالجة شخصيات لأطفال تتطلب أكثر بكثير من لقطات هائمة وموسيقى حالمة (هناك علاقة غريبة هذه الأيام بين نقرات البيانو والأفلام) وطفل تبدو عليه معالم البراءة.

ماراتية نجوم الغانم التي سبق لها وأن قدمت عددا من الأفلام التسجيلية الأخرى التي نالت جوائز في مناسبات ومهرجانات عدة. هذا الفيلم بدوره كان نال جائزة الفيلم التسجيلي الأولى في مهرجان دبي الأخير، ومشترك في مسابقة الفيلم الطويل في هذه الدورة ولو فاز بها فإنه يستحقها عن جدارة.

إنه عن الفنانة السورية أمل حويجة التي كانت تركت دمشق قبل عدة سنوات ولجأت إلى مدينة أبوظبي على أساس أنه اغتراب مؤقت لن يزيد على عام أو عام ونصف في أفضل الأحوال. هكذا قالت لزميلاتها الفنانات المسرحيات حين غادرت وطنها لتعمل «بشكل مؤقت» في الإمارات. لكن العام تحول إلى عامين ثم إلى ثلاثة وتجاوز الخمسة.

على الشاشة نتابع مناجاة الفنانة لنفسها ولغيرها ولنا في كل الأحوال. تتحدث عن مشاعرها. عن حبها لوطنها وحبها الموازي لمكان إقامتها. هنا عرفت حرية من نوع غير معهود (بالنسبة لها على الأقل) لكنها تدرك أنها تركت هناك ما لا تستطيع تحقيقه هنا: هويتها الخاصة وذاتها الفنية ضمن معايشة ثقافية جامعة تواجهها حياة ثقافية شاملة لكنها تبدو عابرة. أمل حويجة تذكر، عن صواب، أن ما تشتاق إليه هو «البروفة»، تلك المرحلة من العمل الفني حيث يلتقي الممثل وشخصيته التي سيقوم بأدائها لأول مرة. يتعرفان ويبدآن مشوار التحول إلى ذات واحدة.

وتلاحظ كذلك أن النقد يتبع «المجاملة الثقافية» حيث للجميع رأي مؤيد للمشروع أو للعمل المقدم. لكنها هي لا تنتقد أو تلاحظ إلا من حيث علمها وتجربتها. ليس هناك أي لوم أو نقد للتجربة الإماراتية، فقط تلك الملاحظات النابعة عن وضعين ثقافيين مختلفين بعض الشيء.

لكن ما يكشف عنه الفيلم ليس وجهات نظر الممثلة المسرحية بتلك الفوارق، بل بعالم من الغربة تعيشه الفنانة بين ماض دفعها للهجرة وحاضر تخشى معه أن ينجلي عن مستقبل باهت، فتقرر العودة.

إلى هنا كان يمكن للفيلم أن ينتهي. وهو لو فعل لبرز السؤال عن مصيرها اليوم، وسوريا في هذه الولادة المتعسرة للحرية التي يخوضها الشعب في محاولة جسورة وبطولية لتحقيق الذات. لكان السؤال المطروح هو: ماذا حدث لها؟ ألم تختر أسوأ الأوقات للعودة إلى سوريا وهو القرار الذي هدفت منه إعادة اللحمة مع طموحاتها السابقة؟

لكن الفيلم لا ينتهي هنا بل يُضيف خمس دقائق مهمة أخرى: ها هي أمل تعود من سوريا لاجئة من جديد. هذه المرة برسالة أخرى مفادها تحقيق ما لا يمكن تحقيقه تحت جور النظام القائم هناك: تأييد تلك الثورة المطالبة بالتغيير.

عند هذا الحد ينفصل الفيلم عن الشخصية. الفيلم هو الوعاء الذي عبرت فيه الفنانة عن نفسها وعالمها وتطلعاتها وأحزانها لكنه ليس وعاء مناسبا يترك القيادة للمضمون ويتخلى عن وظيفته الفنية. في نحو 90 دقيقة، تقدم المخرجة على تحويل رصدها من علامات وحسابات تقنية ورقمية وعلمية إلى فن نابض. الشغل على الفيلم التسجيلي، الآيل يوما لأن يكون وثيقة، لا يعتمد على الحدة ولا يحاول أن يبرهن عن شيء، بل يستغل الوقت في توفير سلاسة مطلقة للموضوع مع خبرة في التوقيت واقتصاد في التعامل مع الكاميرا فهي حاضرة ومعايشة ولقطاتها مختارة بعناية. كل ما عند المخرجة من إلمام في الصياغة السلسة تستخدمه هنا، علما بأن بطلتها هي في 99 في المائة من المشاهد.

طبعا في البداية من حق المرء أن يتساءل عما إذا كان موضوع امرأة تتحدث عن غربتها وتطرح تساؤلات لا تعرف الإجابات الوافية لها جميعا سيستطيع شغر الوقت الذي يعد به الفيلم. يُضاف إلى هذا أن أمل حويجة من الفنانات غير النجمات على نحو ساطع. هي معروفة بالتأكيد في شؤون ومجهولة في شؤون رغم ظهورها في التلفزيون وبعض الأفلام القليلة في سوريا (يستعين الفيلم بمشهد لها من فيلم ريمون بطرس «الطحالب») والبديل في هذه الحالة هو التركيز على ما تعايشه من أفكار وأحاسيس فهي التي ستشغل البال وتسيطر على الاهتمام أو تسقط تماما.

الفيلم لا يحولنا إلى مجرد متابعين: هؤلاء الذين يعيشون غربة مماثلة سيشعرون أن الفيلم إنما يتحدث عنهم، والذين لم يحيوا هذه الغربة (من أهل البلاد مثلا) فإن نقطة الاهتمام تنطلق وتكبر على الدوام: كيف يرى الغريب، إذا ما كان مثقفا وفنانا، البلد الذي حل فيه ضيفا.. وبكل صراحة.

بعض المشاهدين لن يتحمل ملاحظاتها، لكن لا أمل ولا الفيلم يقصدان القول إن بطلته جاحدة. ما يقصدانه هو البحث في وضع إنسانة بين المطرقة والسندان. بلدها لم يوفر كل طموحاتها، والبلد الذي حطت به ليس قادرا، ببنيته الخاصة، على تحقيق تلك الطموحات. وبذلك هو حديث قلب لفنان ينظر إلى ماضيه بنوستالجيا حانية وإلى مستقبله ببعض ما بقي لديه من أمل وإلى حاضره المتشرذم بين الاثنين. تعمل المخرجة على التفاصيل من دون أن تغدق فيها. لديها شخصية نشطة وحيوية من ناحية وحزينة ومنطوية من ناحية أخرى. تحت الحياة وتنظر إليها بعتاب أيضا وعلى إيقاع ذلك تختار المخرجة أسلوبا رشيقا مصاغا بمقدرة فنية مثيرة بسبب غناها البصري بحد ذاته. «أمل» ليس فقط أفضل أعمالها إلى اليوم، بل هو واحد من أفضل الأفلام التسجيلية العربية في السنوات العشر الأخيرة.

تم تصوير الفيلم في أبوظبي كما في دبي والشارقة، لكن أبوظبي هي المدينة النجمة والصرح الكبير لما كان يوما «المجمع الثقافي» (الذي تم إخلاؤه ثم تقويضه فيما بعد) هو جوهرتها. حين تتحدث أمل عنه، تتحدث عنه بحب كبير وبإعجاب شديد. فهو كان عالما من الثقافة والتراث فريدا من نوعه وفي نشاطاته في كل أنحاء العالم العربي.