«حريم السلطان» و«الفتح 1453».. مرحبا بالعثمانيين الجدد

«لتفتحن القسطنطينية.. فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش»

من فيلم «الفتح 1453»
TT

إن التسليم بمقولة «التاريخ يعيد نفسه» قد لا يكون صائبا في أغلب الأحيان، لكن الحالة التركية الراهنة تجعلنا نسلم ببعض الأدلة التاريخية التي تتكرر بصور مختلفة، ولـ10 سنوات مضت فقط كان مجرد التلميح إلى الخلافة العثمانية يعتبر مخالفة صريحة للقوانين العلمانية الصارمة في تركيا، وهي قوانين اجتهد مصطفى كمال أتاتورك في تغليظها حرصا على قطع الطريق أمام أي محاولة للعودة أو حتى مجرد التفكير في الخلافة أو في الإسلام، وبين الماضي والحاضر، وبين الماضي البعيد والحاضر القريب، نتذكر دولة الخلافة العثمانية بعلوها ومجدها، ثم انحسارها فانهيارها وتقزمها وقيام الدولة التركية الحديثة عام 1922، نتذكر أن العثمانيين من سلالة أناضولية قامت على أنقاض الإمبراطورية البيزنطية كانوا هم حاملي لواء الإسلام بعد فتحهم للقسطنطينية (إسطنبول حاليا) عام 1453م، وقد توسعت إمبراطوريتهم في أوروبا الوسطى، متضمنة بلغاريا، وصربيا، والمجر، وبعد أن أقام السلطان سليمان القانوني الحكم العثماني من بغداد إلى البصرة، ومن القوقاز إلى مدخل البحر الأحمر، وأينما تجولت في أحياء وأزقة وأسواق إسطنبول أو تحدثت إلى الأتراك أو تابعت محطاتهم الفضائية عبر «تركي سات» تجد أن هناك حنينا جارفا إلى الماضي، ورغبة في العودة إلى حقبة اتسمت بالفتوحات والعظمة الثقافية حكم خلالها سلاطين تلك الإمبراطورية التي امتدت من البلقان إلى المحيط الهندي وكان لها موقع ريادي من الناحية الروحية داخل العالم الإسلامي. ويقدم الرواج الحالي لكل شيء يرمز للحقبة العثمانية، بدءا من الأعمال الدرامية التاريخية المتزايدة ووصولا إلى الخزف الصيني المزين بالرسوم العثمانية، دليلا في الاتجاه نفسه، و يعرض في دور السينما حاليا فيلم «الفتح 1453» الذي يتناول قصة فتح مدينة إسطنبول علي يد السلطان العثماني محمد الفاتح؛ حيث يعتبر الفيلم أكبر أفلام السينما التركية ميزانية حتى الآن. ويجسد شخصية السلطان محمد الفاتح الفنان دفريم أفين، أما شخصية أولوباطلي حسن، الذي يعتبر أول جندي عثماني يقوم برفع علم الدولة العثمانية على أسوار إسطنبول - القسطنطينية - فيقوم بتجسيده الفنان إبراهيم جليك كول. ويبدأ الفيلم، الذي استمر تصويره طيلة 3 سنوات، بحديث رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم: «لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش»؛ حيث يتناول الفيلم فتح السلطان محمد الفاتح مدينة إسطنبول في الفترة الواقعة بين عامي 1451 و1453 ميلادية.

وبعد 3 سنوات من العمل المتواصل من قبل المخرج التركي فاروق أقصوي، خرج فيلم «الفتح 1453» إلى العلن تحت عنوان «ya istanbul’u alacam ya da istanbul beni» وهي مقولة قالها السلطان محمد الفاتح باللغة التركية، وتعني بالعربية «إما آخذ إسطنبول وإما إسطنبول تأخذني»، ووصلت ميزانية الفيلم إلى 17 مليون دولار أميركي، وهي تعتبر الأضخم في تاريخ السينما التركية. ومن الوهلة الأولى يبدو هذا الفيلم الذي تبلغ مدته 165 دقيقة مناسبا تماما في جدول أعمال العثمانيين الجديد الذي يديره الحزب الحاكم في تركيا (حزب العدالة والتنمية). ويبدو كذلك أن ممولي مشروع الفيلم، وعلى رأسهم أمانة إسطنبول الكبرى التي يحكمها حزب العدالة والتنمية، كانوا معجبين كثيرا برسالته التي ترسخ الحنين إلى فترة السلاطين وإلى ماضي الإمبراطورية العثمانية.

الفيلم الذي جعل القلوب التركية تمتلئ بفخر غير عادي بقوميتهم، و يتناول قصة استيلاء محمد الثاني على العاصمة البيزنطية القديمة، القسطنطينية، مؤكدا أن تركيا الساعية للنفوذ لا تزال الرغبة في غزو العالم تجري في عروقها.

وكما تشير جريدة «زمان» التركية ذات التوجه الديني «يشعر الأتراك بروح الإمبراطورية مجددا بعد عقد من النمو الاقتصادي غير المسبوق؛ حيث استمدوا من أجدادهم العثمانيين الإلهام في السياسات الخارجية، كما في التصميم الداخلي والطعام والموضة والمسلسلات والأزياء وآخرها (حريم السلطان)، الذي يعرف بمسلسل القرن العظيم التلفزيوني (Muhteem Yüzyl) الذي يتناول جانبا من حياة السلطان العثماني، سليمان القانوني، الذي شهدت السلطنة في عهده أوج ازدهارها، وتولى السلطان سليمان الحكم بين عامي 1494 و1566م في أوج مجد الدولة العثمانية، وارتبط اسمه بالقوانين التي أرساها وعرفت باسمه أو من جهة فتوحاته في أوروبا والعالم العربي، والسلطان سليمان الأول بن سليم (بالتركية العثمانية: سليمان بن سليم)، كان عاشر سلاطين الدولة العثمانية وصاحب أطول حكم من 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1520 حتى وفاته في 5 يونيو (حزيران) سنة 1566، ويعرف عند الغرب باسم سليمان العظيم وفي الشرق باسم سليمان القانون. أصبح سليمان حاكما بارز في أوروبا في القرن السادس عشر، يتزعم قمة سلطة الإمبراطورية العثمانية العسكرية والسياسية والاقتصادية. قاد سليمان الجيوش العثمانية لغزو المعاقل والحصون المسيحية في بلغراد ورودوس وأغلب أراضي مملكة المجر قبل أن يتوقف في حصار فيينا عام 1529م».

ويرجع تميز «حريم السلطان» عن باقي المسلسلات التركية بكونه يجمع بين الدراما والتاريخ؛ حيث اعتاد المشاهد العربي عموما على مسلسلات تاريخية تعرض فقط لقوة البطل العسكرية وفترة حكمه وازدهارها ومشاهد المعارك والقتل والانتصار، بعيدا عن الحياة الشخصية والاجتماعية للملك أو السلطان. أما حالة «حريم السلطان»، فقد جمعت الكاتبة ميرال أوكاي بين الحقيقة التاريخية لازدهار الإمبراطورية العثمانية في عهد سليمان القانوني وتوسعها لتضم 3 قارات هي آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبين الإثارة الاجتماعية لحياة السلطان وعائلته وحريم القصر، أي الجواري بالحرملك، أو محيط الجوار، الذي لا يعرف خباياه سوى السلطان وأقرب المقربين إليه، وهو الأمر الذي جعل من المسلسل يجمع بين التاريخية والدرامية وبين الحقيقة والخيا.

* عالم الحرملك السلطاني

* وفي القصة حب سليمان القانوني لمحظية تدعى هرام سلطان عُرفت أيضا باسم روكسلانة، وتدور أحداث المسلسل بصفة رئيسية داخل الحرملك السلطاني، والمسلسل التركي أثار جدلا لأنه يصور السلطان عربيدا يشرب الخمر ويغازل النساء، وتؤدي الممثلة الألمانية تركية الأصل، مريم أوزرلي، في المسلسل دور هرام سلطان، محظية سليمان القانوني، التي تقول إنها كانت امرأة غير عادية، ولا يمكن التنبؤ بتصرفاتها مثل قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.

يقتحم المسلسل الحياة الخاصة للسلطان سليمان القانوني؛ فهو يصور السلطان سليمان على أنه شخص يخصص كل اهتمامه لمحظية، بينما ذكرت ميرال أوكاي، المؤلفة، أن المسلسل أثار الغضب؛ لأنه فتح بابا يطل منه الناس على عالم الحرملك السلطاني المغلف بالغموض، وقالت: «الحريم مكان خاص جدا تعيش فيه أسرة السلطان، دخلنا هناك، وأعتقد أن الانتقاد الرئيسي بدأ من هذه النقطة، لكن بالدخول إلى هناك جعلنا هذه الشخصيات التاريخية كلها، التي لا تمس والتي تحظى بالاحترام، قريبة منا. جسدناها كبشر يخاف ويغضب ويحب، وكان الحرملك محظورا على أي رجل سوى السلطان والطواشي. ولم تتناول أي من صور الفن الحرملك باستثناء صور من خيال الرسامين، ولا يعارض الأتراك كلهم المسلسل؛ حيث لا يرى بعضهم مشكلة في المزج بين الوقائع التاريخية والخيال».

وتقول سيدة تركية تعيش في إسطنبول: «بما أننا نعيش في بلد حديث، في عالم يتشابك فيه الواقع والخيال فلم لا يستطيع المخرجون استخدام خيالهم؟ يجب ألا ينتقد أحد الفن القائم على الخيال».

ويبدو أن انبهار متابعي المسلسل بشخصية هويام، التي لقبها السلطان بـ«الخرم»، أي الباسمة، وصاحبة الجمال الخارق والدهاء الفتاك الذي أضعف دولة بأكملها، تعدى مسألة الإعجاب ووصل إلى درجة التغني بجمالها الآسر، وأدت الممثلة التركية مريم أوزلي، التي ولدت لأب تركي وأم ألمانية، دور هويام في المسلسل ونالت جائزة «إسماعيل جيم» كأفضل ممثلة عن هذا الدور، وهويام هي روكسلانة، روسية من أصل يهودي، وابنة أحد رجال الدين الروس، واسمه دي روجالينو، اختطفها أحد تجار الرقيق من القوقاز، وانتهى بها المطاف لتباع للسلطان سليمان القانوني، الذي ألحقها بالحريم السلطاني وبدأت فيه حياتها جارية، وأطلق عليها لاحقا لقب «الخرم» ويعني الباسمة نظرا لجمالها الفائق. أعتقها السلطان سليمان القانوني بعد أن وقع في هواها، وتزوجها وأنجب منها البنين والبنات، مما أسهم في رفع مكانتها في البروتوكول العثماني من جارية إلى «قادين»؛ حيث جعلها السلطان مستشارته الأولى في شؤون الدولة، وكان يحب البقاء بقربها وهو الذي كان لا ينفك عن قيادة الجيوش. وكانت هويام، أو روكسلانة، تخشى دائما أن تفقد سلطانها ونفوذها وقوتها وصلاحياتها إن توفي السلطان، خاصة أنها لا تزال في معية الصبا، والسلطان في الخمسين من عمره، فضغطت على السلطان حتى يجعل ابنها وليا للعهد بدلا من مصطفى أكبر أبنائه وولي عهده الرسمي وابن ضرتها وغريمتها الشركسية، وقد أفلحت في الوصول إلى هدفها ومبتغاها من خلال خطة محكمة وخبيثة، بدأت بإفسادها العلاقة بين السلطان وزوجته الشركسية، وانتهت بتحريضها السلطان سليمان القانوني على قتل الأمير مصطفى الذي أجمع معاصروه على أنه كفاءة ممتازة تجدد عظمة أبيه في شبابه، وبعد وفاة السلطان سليمان القانوني، أثناء حصار مدينة سيكتوار عام 1566، تولى ابن روكسلانة، سليم الثاني، مقاليد الحكم، وولدت على يديه لاحقا بوادر انهيار الدولة العثمانية.

وعودة إلى فيلم محمد الفاتح، قدم المخرج جوانب بسيطة من حياة محمد الفاتح العائلية؛ حيث تمت ملاحظتها على أنها كسر للروتين الاستعراضي للفيلم؛ حيث بيَّن الفيلم مفاتن زوجة محمد الفاتح، أمينة كلبهار، أي أمينة وردة الربيع، من دون تقديم أي معلومة عنها؛ حيث تعود في أصولها إلى الروم الأرثوذكس، أي يونانية الجذور من إحدى قرى مدينة طرابزون التركية، لكن في الوقت ذاته عرض المخرج قصة حب وضع عليها نقاط تعجب تاريخية بين أولوباتلي حسن، الجندي الأقوى في الجيش العثماني، الذي رفع راية النصر، وبين شخصية اسمها إيرا، المأسورة من قبل البيزنطيين عندما كانت صغيرة قبل أن يشتريها ويتبناها المهندس الذي صنع المدفع الأضخم الذي أسهم في فتح إسطنبول (أوربان).

وفي فيلم الفتح ديكورات عالية الجودة تقارب، إلى حد بعيد، ملامح إسطنبول التاريخية، وقد أدار المخرج المشاهد القتالية بحرفية عالية؛ حيث تجد نفسك أمام مشهد قتالي ينافس مشاهد هوليوود القتالية، وجذبت النغمة الدينية في فيلم الفاتح التي تجلت من خلال الإشارة إلى تنبؤ الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، بانهزام الروم يوما ما جمهورا جديدا، وواعيا إلى دور السينما وجعلته محببا، خاصة لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان؛ حيث يتناسب ذلك مع رؤيته «لتربية أجيال متدينة تحتضن قيمنا التاريخية».

واختفت حاجة الأتراك للقطيعة عن الماضي؛ حيث عادوا مجددا للاتصال بتراثهم العثماني، ولا يبدو أن الكثير من الأتراك الآن مسرورون بحالة الانغلاق الفكري التي هم فيها. ونتيجة لما شهدته تركيا من نمو اقتصادي غير مسبوق خلال العقد الأخير، والاكتشاف في الوقت نفسه أن «الكمالية» التي شهدها القرن الماضي مرهقة، يشعر الأتراك بالحنين إلى الإمبراطورية مرة أخرى.

ومنح المؤرخون القوميون الدينيون الأتراك أعلى الدرجات لهذا الفيلم، على الرغم من معرفتهم أنه يحتوي على بعض الأخطاء الواقعية المذهلة، وأن في تسلسل أحداثه خروجا واضحا عن الحقائق التاريخية. وكذلك احتفل معلقو الصحف الشعبية التي تعتبر رزينة في أمور الدين بقصة فتح القسطنطينية مثلما يصورها هذا الفيلم، واتضح ذلك أيضا في تحمسهم له، وبالنسبة لهم يعتبر هذا الفيلم خير دليل على أن بلادهم قادرة على إنتاج أفلام بمستوى أفلام هوليوود، وأن بإمكانهم الآن إنتاج أفلام تاريخية كبيرة مثل فيلم «طروادة».

ويؤدي دور السلطان محمد الثاني، الذي كان عمره إبان فتح القسطنطينية 18 عاما ممثل تجاوز عمره 40 عاما، هو الممثل دفريم أفين الذي يشبه شكله لوحة تظهر السلطان محمد الفاتح النحيل، رسمها الفنان جينتلي بيليني عام 1480 وهي موجودة حاليا في المعرض الوطني في لندن.

وفي الفيلم شخصية رئيسية ثانية تبقى مطبوعة في الذاكرة، هي شخصية أولوباتلي حسن، الذي يعتبر في الموروث الشعبي بطلا بعد أن رفع راية الفاتحين على أسوار القسطنطينية ومهد بذلك طريق النصر للجنود الانكشارية. وفي الفيلم يتم تحويل أولوباتلي حسن إلى مدرب مبارزة وأقرب المقربين من السلطان.