طفولة مرة وأخرى أكثر مرارة

من «داليا»
TT

الأفلام الكثيرة التي تدور حول الأطفال أو التي تحوي أطفالا كثيرة في هذا العام. هي كانت كثيرة في الأعوام السابقة أكثر من هذا المهرجان (وفي كل دورة من كل مهرجان خليجي) لكن المرء أعتقد أن المسألة في البداية كانت فورة طموحة لتناول فترة بريئة من العمر، على أساس أن الأولاد دون الثالثة عشرة هم دائما يعكسون الأمل والطهارة النفسية، سواء أكان الموضوع نفسه مأساويا أو مرحا.

لكن هناك جوانب عدة تجعل المسألة أكثر بكثير من مجرد حب لبراءة الطفولة وسنوات الربيع الأول. ربما المسألة تتعلق بالحنين الشخصي، وربما كانت تتعلق باعتقاد صارم بأن تلك السنوات هي أفضل سنوات الحياة، ثم لا ننسى أن البعض يحاول من خلال تصوير الطفولة أن يصور معاناتها في عالم شرس لا يرحم.

في دورة هذا العام، نجد الطفولة وحكاياتها موزعة في نواحٍ كثيرة، ومعظمها لأسباب مختلفة لا يعكس مواقف متنوعة، بل يتناول شخصيات طفولية في أوضاع مأساوية.

في الفيلم الإماراتي «انتظار» إخراج هناء الشاطري، نجد ذلك التوق إلى الطفولة متمثلا في وضع رجل راشد يتراءى له وجود طفلة بجانبه. إنها حكاية رجل كان بانتظار المترو وحيدا عندما لاحظ وجود فتاة صغيرة تنظر إليه، ثم تجلس لجانبه وتأكل من الطعام الذي كان يتناوله. حين صعد الحافلة لحقت به. يحاول صدها في بادئ الأمر، ثم يتجاوب مع لعبها قبل أن تختفي فجأة، واختفاؤها يحوله إلى رجل حائر ومنهار يوقف المارة في المحطة لسؤالهم عنها، معتقدا أنها تظهر في الصورة التي التقطها لهما بهاتفه، لكن الصورة تظهره وحده والناس تعتقد أنه مخبول. يزداد إلحاحه ويعترض بعض المارة وأحدهم يرميه أرضا، فيبدأ بالبكاء. بما أن الفتاة غير موجودة في الصورة التي التقطها، نعلم، كمشاهدين، أنها من بنات عقله. حين تفسير ذلك فإن مرجوعنا الوحيد لفهم الحالة يوجهنا إلى الاعتقاد بأن الرجل تحت إرهاص شديد وتوق أشد لحالة من الطفولة التي، لسبب غير معلوم، تعني له في تلك اللحظة أهمية تفرض عليه استدعاء طفلة من الذاكرة أو من الخيال.

في الفيلم العُماني «حبات البرتقال المنتقاة بدقة» لعبد الله خميس، يتخيل، حسب النص المنشور لكن هذا ليس واضحا على الشاشة، رجل آخر وجود ولد وبنت دون العاشرة يقفان وسط قناة ماء جارية، يلتقطان حبات البرتقال العائمة الآتية من مصدر غير معلوم. الرجل، المصاب بعرج، كان اشترى كيسا من البرتقال وحاول اجتياز الطريق عائدا من حيث جاء، يتردد كثيرا بسبب زحمة الطريق، لكن حين يصل إلى الطرف الآخر من الطريق يكتشف أنه ترك كيس البرتقال في الناحية الأولى. يبتعد عن المكان متحسرا. ما علاقة ذلك بالطفلين؟ إذا وافقنا على فكرة المخرج غير المعبر عنها جيدا، فإن العلاقة هي أيضا ذاكرة منطفئة وتوق لعالم آخر.

الأمر عاتٍ وعنيف حين يأتي الأمر إلى فيلم عراقي، من مقاطعة كردستان، عنوانه «داليا» ويدور حول رجل كردي وابنته العمياء الصغيرة في طريقهما إلى المستشفى لمحاولة إجراء عملية تعيد للفتاة بصرها. يتوقفان لتناول الغداء في مطعم. هناك يجبر رجل عربي الأب على ربط حزمة متفجرات حول وسطه ويخطف ابنته مهددا بقتلها إذا لم يفجر نفسه. يسأله الكردي طالبا الرحمة، لكن العربي، تبعا للفيلم، بلا قلب يرحم ويتركه ساحبا الفتاة معه. يصرخ الكردي طالبا ممن في المطعم الهرب فهو لا يريد إيذاء أحد، فيركض الناس طلبا للهروب، وتنفجر العبوة به وبابنته ليفيق من نوم طارئ وراء المقود. لكن الفيلم لا ينتهي هنا، من حسن الحظ، بل يصور انفجارا فعليا حال يعود الرجل لوعيه. إذا تجاوزنا التصوير ذا اللون الشاحب والمكتفي بحمل الكاميرا من دون تفنينها، يبقى هناك الوضع غير المحبوك جيدا. عمى الفتاة مرجعه قيام نظام صدام حسين بإلقاء القنابل النووية على الرغم من أنها في الرابعة من العمر. صحيح أن الفيلم يذكر أن عماها وراثي لما حدث لأمها إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون صحيحا طبيا. بالتالي يفقد الفيلم نصيبه من المصداقية.

الطفلة هنا هي ضحية عالمين، نظام راحل ونظام حالي. الأول سبب عماها والثاني سبب مقتلها وأبيها. وأفضل ما في الفيلم أنه يعرض الحال المتوترة بين الناس؛ فبينما الحادثة هي حلم يأتي الانفجار الثاني كحقيقة.

وفي فيلم «كردي» آخر هو «حلبجة - الأطفال المفقودون» يطالعنا أيضا الوضع نفسه: الأطفال الذين سقطوا خلال غارات النظام السابق على الأبرياء ومن دون تمييز وقتلت من قتلت، ولو أن فيلم أكرم حيدو يتناول جانبا منفصلا، فالعنوان، جزئيا، يشير إليه، هو أنه كان طفلا حين رمت طائرات النظام قنابلها الكيماوية على ذلك الشعب.

الحالة القصوى من حالات الطفولة نجدها في فيلم هاني الشيباني «جنة رحمة»، هنا يعالج المخرج الإماراتي المعروف حكاية اجتماعية المدلولات حول امرأة مسنة تعيش في بيت متواضع وتعيش مع فتاة آوتها وهي طفلة، لكنها الآن شابة شديدة التخلف عقليا ولا تستطيع التحكم في تصرفاتها، ولا هي قادرة على الفهم والتواصل. الأم تعامل تلك الفتاة في جمع من القسوة والرأفة وترفض اقتراحات أولاد شقيقتها إيداع الفتاة في المستشفى. الحالة العنيفة التي يعرضها الفيلم مسرودة بقدر ملحوظ من الرقة، لكن هناك مشكلتان صغيرتان في هذا العمل، الأولى أن الحكاية تخسر بعض تأثيرها بسبب تطويل الحالة أكثر بقليل مما يجب. الثانية هي أن الممثلة التي تؤدي الدور (صوغة) أكبر قليلا، في العمر والحجم، من أن يمنح الفيلم سببا لطرح الموضوع في هذا السن تحديدا. على ذلك، يصوغ المخرج الدراما جيدا، والتمثيل من صوغة والبطلة الرئيسية مريم سلطان جيد. الحوار لا يخدم الثانية لأنه لا يكشف جديدا من بعد المرة الأولى.

الوضع الماثل هنا هو تلك الطفولة التي تسكن بدنا كبيرا، لكن ليس هناك من مدلولات عاطفية ونفسية إضافية.