العالمة السعودية حياة سندي تبهر جمهور اليونيسكو في باريس

آخر اختراعاتها شريحة بحجم حبة الأرز تحمل أسرار الحياة وتساعد في إنقاذ حياة الملايين

د. حياة سندي في باريس أمس («الشرق الأوسط»)
TT

أمس كان يوما مشرقا بالنسبة للمرأة العربية في باريس، بفضل شمس سعودية فذة تتمثل في الدكتورة حياة سندي، هذه الشابة اللامعة التي وقفت أمام جمهور جاء للاستماع إلى ندوة حول المرأة ضمن الأيام السعودية في اليونيسكو، وتحدثت بكلمات عميقة في بساطتها عن تجربتها منذ أن كانت طفلة في مكة المكرمة، واحدة بين 8 أبناء وبنات، تلْتهم المجلات العلمية وتتابع سِيَر العظماء وتحلم بأن تصبح عالمة مثلهم، تخدم البشرية. وها هي قد حققت شيئا من حلمها، رغم أن جبالا من الحواجز وقفت في وجهها، في الداخل والخارج، وباتت الجامعات الكبرى ومراكز البحث العلمي، شرقا وغربا، تستدعيها وتتودد إليها وتفتح أمامها أبواب مختبراتها.

لم يكن الأجانب الذين حضروا الندوة مبهورين بما قالته تلك المرأة المبتسمة ذات الوشاح الأصفر، بل حتى أولئك المربون والإعلاميون العرب والسعوديون الذين اعتادوا حضور المؤتمرات وسماع الخطب المطولة. لقد تحول الجميع إلى آذان صاغية لشهرزاد عصرية تروي وتبتكر في معانيها وتتفنن في بلاغتها وتستمد الإيمان من رسوخ تربيتها وتثير الإعجاب بالتسلسل الجميل لأفكارها، وفي تنقلها بين الخاص والعام، بين ما هو علم بحت وما هو حياة تعاش مرة. فماذا قالت حياة سندي؟

بدأت المتحدثة بإيراد تقديرات لعلماء البيولوجيا بأن عمر الأرض يعود إلى أكثر من 4 بلايين سنة، وأن معرفة الإنسان بالكتابة تعود إلى نحو 6 آلاف سنة، وهي تقديرات تحتمل الخطأ والصواب، لكن المؤكد أن العلم لم يصبح مصدرا للتقنية الاقتصادية والتطوير إلا منذ 150 سنة تقريبا. ولهذا فهي قد أدركت منذ فترة مبكرة أن تنمية المعرفة في أي مجتمع هي السلاح الحقيقي لنشر الفضائل وبلوغ مراتب الخير والسعادة. لقد كانت تعي أن العلم خلق لمنفعة الإنسان، مهما كان لونه أو جنسه أو جنسيته. ومن هذا المدخل انتقلت حياة سندي إلى وقفتها الشجاعة أمام عائلتها لكي تقنعهم بالسفر إلى الخارج، بعد أن أنهت الثانوية بتفوق، ودراسة علم الأدوية. كانت أسماء شخصيات مثل الخوارزمي وابن الهيثم وأينشتاين وماري كوري تملأ خيالها. أما العائلة فكانت لا تخشى العلم لكنها تخاف على البنت الصغيرة من السفر وحيدة وهي التي لا تجيد اللغة الإنجليزية بشكل كافٍ. وبعد سنتين من المحاولات حازت على الموافقة ووصلت إلى لندن وهي تتصور أن كل الأبواب ستكون مشرعة في وجهها، لكنهم قالوا لها إن مؤهلاتها غير كافية للالتحاق بالجامعات البريطانية، وعليها الحصول على شهادة الثانوية هناك... فكيف تحصل عليها بلغتها الضعيفة؟ كان الرفض قاسيا ويبعثر كل الأحلام الوردية، وهو يعني: «عودي إلى بلدك، فهذا أفضل لك».

قالت حياة لنفسها: «إن لي عقلا مثلهم، فلماذا لا أتعلم ما داموا هم تعلموا؟». ومنذ تلك اللحظة بدأت الطالبة السعودية المجتهدة سنة من الألم والدموع، وكانت تدرس من 18 إلى 20 ساعة في اليوم وتجد سعادتها في التحدي. وفي آخر ذلك العام نجحت وتم قبولها دون قيد أو شرط في كل الجامعات التي رفضتها من قبل. وهكذا التحقت بجامعة «كنغز كوليج» العريقة في لندن، وفي سنتها الدراسية الثانية اختارتها إدارة الجامعة لتأسيس معمل لعلم الأدوية تحت جائزة «الأميرة آن»، وتمكنت من اكتشاف آلية دواء للربو ونالت مرتبة الشرف عليه. وبفضل أبحاثها حول الأدوية نالت منحة دراسية من جامعة كامبريدج للتحضير للدكتوراه في المعهد الشهير للتكنولوجيا الحيوية.

تصمت حياة / شهرزاد قليلا عن الكلام المباح ثم تواصل: «عندما يقف الزائر أمام جامعة كامبريدج ينجذب إلى مبانيها القديمة وحدائقها المتناسقة، لكن الحقيقة من الداخل تكون مختلفة في بعض الأحيان. لقد صدمت عند خطواتي الأولى هناك وأنا أسمع أحد المدرسين المتميزين يتوقع لي الفشل لسببين، حسب رأيه، الأول هو أن العلم لا يتماشى مع الدين، والثاني هو أنني امرأة في مجال يسيطر عليه الرجال». لكن ما قاله الأستاذ كان عكس ما تربت عليه حياة سندي. فهناك، كما قالت، الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تحث على العلم والتفكر والملاحظة والتأمل والتحليل والاستنتاج والتساؤل والاكتشاف. لقد أخبروها صراحة أن عليها الاختيار بين الفشل أو التحول إلى امرأة عادية، وهو ما فهمته على أن عليها أن تتخلى عن الخمار الذي يغطي رأسها. لكنها لم تلقِ بالا لهم وأنهت دراستها بتفوق وحصلت على الاعتراف العلمي وتلقت عروضا من وكالة «ناسا» في الولايات المتحدة ومن معهد طوكيو للعلوم ومن مختبرات جامعة بيركلي ومن مختبر «يوروميديكا» للعقاقير في سويسرا وحتى من معهد وايزمان في تل أبيب. أما في بلدها فيكفيها أن العاهل السعودي أطلق عليها لقب «الموهوبة»، كما تلقت دعوة من الأمير البريطاني فيليب للالتحاق بعضوية الكلية الملكية للمعلمين.

حال حصولها على الدكتوراه أسست حياة سندي شركتها الخاصة للبحث في تكنولوجيا المجسات، ومضت خطواتها متسارعة، رغم سنها الشابة، لتصل إلى جامعة هارفارد الأميركية كباحثة زائرة تعمل في مختبر مدهش تخرج منه الاكتشافات الكبرى والأدوية الشافية. وهناك، في مختبر جورج وايتسايدس تمكنت الباحثة السعودية، مع فريقها العلمي، من ابتكار اختراع فريد تصفه بأنه سوف يغير حياة الناس، وبناء عليه أسست شركة غير ربحية مع الجامعة لتوظيف هذا الاختراع باسم «التشخيص للجميع». تصوروا نوعا من المجسات مصنوعا من الورق، لا تزيد كلفته على سنت واحد، سهل الاستخدام والحمل، يمكنه مساعدة الناس في كل مكان، وبالأخص الفقراء الذين لا يستطيعون الوصول إلى الطبيب والمستشفى، على الاستدلال على الأمراض ومراقبة صحتهم، ويحل محل آلات التشخيص الضخمة والمكلفة. ومن المتوقع أن يساهم هذا الاختراع في إنقاذ حياة نحو من 4 إلى 5 ملايين إنسان كل سنة، ممن يعانون من الملاريا والسل والتهاب الكبد الوبائي وتلوث المياه.

تصوروا، مرة أخرى، شركة غير ربحية تنتج اختراعا وتضعه في متناول الجميع، رغم غابة الشركات التجارية الساعية وراء أقصى الأرباح في عالمنا الحديث؟ لقد توصلت الدكتورة السعودية إلى قناعة بأن الذكاء والمال ليسا كافيين لابتكار اختراعات حقيقية قادرة على تحسين حياة الناس، بل لا بد من جعل العلوم هدفا أساسيا يؤثر في قضايا المجتمع. وجاء آخر اختراعاتها على شكل شريحة حيوية لا مثيل لها من قبل، هي مجرد بقعة من الألمنيوم على قرص من الزجاج، يمكنها مساعدة العلماء على فهم كيمياء الحياة، أي الحمض النووي والبروتينات والإنزيمات. إنها أداة توفر للأطباء فرصا للكشف عن أمراض خطيرة كالسرطان. إن هذه الشريحة التي لا يزيد حجمها عن حبة الأرز تحمل عشرات الآلاف من الأجهزة الحساسة ويمكن أن تقيس الدم، مثلا، في ثوانٍ، وغير ذلك من تحاليل تتطلب أسابيع في المختبرات التقليدية.

كان لهذا الاختراع أصداء طيبة في الأوساط العلمية ونالت الدكتورة حياة تكريما من داخل الوطن العربي وخارجه وحصلت على جائزة مكة المكرمة للتميز العلمي. لكن أحلامها ما زالت أوسع من أيامها ولياليها، وهي قد تلقت دعوة من الجمعية الجغرافية الأميركية (ناشيونال جيوغرافيك) للانضمام إليها كأحد القادة المكتشفين الناشئين. كما رشحتها جامعة هارفارد، من بين العشرات من علمائها في الذرة والطاقة والفيزياء والطب، للانضمام إلى 50 شخصية من المبدعين الأكثر فاعلية ونشاطا في الولايات المتحدة. وهي، منذ شهر، سفيرة عالمية لمنظمة «الأصوات الحيوية» العالمية. وكنوع من رد الجميل للأوساط العلمية، أسست مع مجموعة من زملائها معهدا غير ربحي باسم «التخيل والبراعة» لخلق بيئة مناسبة للشباب، إناثا وذكورا، في ميدان العلوم والتكنولوجيا الهندسية في الشرق الأوسط، مقره في جدة.

ما خلاصة هذه التجربة النادرة؟ إن كلمات حياة سندي ستبقى ترن في الأسماع وهي توجه كلماتها إلى النساء عموما والسعوديات بالأخص، قائلة: «لتملأ قلوبكن الثقة المطلقة بالتفكير والإبداع، لتكتسِ أرواحكن بقوة الثبات والصبر، لتكن خطواتكن أكثر عمقا في واقعكن مهما يكن قاسيا وصلبا، بكن شيدت أمم وقامت حضارات، وبعقولكن فتحت خزائن العلم كنوزها ومعارفها. لا تصدقن من يقول إنكن متواضعات التفكير. أنتنّ زهرة الحياة وسرّها، وأنتنّ قوة المجتمعات ورقيها. أوصيكن بالإيمان بأحلام الطفولة. لقد آمنت بأحلامي وأنا طفلة، وأعتقد أنني حققت بعضها، ولكن هناك المزيد بحول الله».

لن نبالغ إذا قلنا إن قنبلة علمية عربية ناعمة انفجرت، أمس، في القاعة رقم 4 في اليونيسكو، فحالما أنهت العالمة السعودية كلمتها انطلق التصفيق ووقف الرجال والنساء من الحضور وهم يتلفتون ليهنئ بعضهم بعضا بما سمعوا من شابة عربية هي «اسم على مسمى».