الرقص بالأصابع يخطف الأنفاس في مهرجان بيروت

«صرخة وقبلة».. عرض مبهر لمحبي «رقص النانو»

الحبيبان يتعانقان وسط أوراق الورد
TT

عرض استثنائي في ابتكاريته وحداثته، هو ذاك الذي افتتح به «مهرجان بيروت للرقص المعاصر»، ليلتي السبت والأحد الماضيتين. عرض يجمع بين الابتكارات السينمائية والمهارات المسرحية، ويخلطهما بالرقص والموسيقى والمؤثرات الصوتية والبصرية، مع نص شديد الرومانسية لا يخلو من سخرية مريرة ولاذعة.

الفنانان البلجيكيان المعروفان جاكو فان دورميل وميشال آن دوماي في شراكة مبهرة، يقدمان على المسرح ورشة تصوير، لفيلم، مدته ما يقارب ساعة وربع الساعة، نراه في بث مباشر على شاشة عملاقة ثبتت أعلى المسرح. فريق العمل الذي يناهز العشرة أشخاص، يعمل بهدوء وتأن بمعداته على المسرح.. يغير ديكوراته.. يبدل أدواته.. يمثل ويرقص.. يصور ونحن نتفرج.. عين على الشاشة، وعين أخرى على الورشة القائمة أدناها. وكلما استغرق المتفرج في متابعة الورشة الدائرة أعمالها على الخشبة، بأدواتها الصغيرة والدقيقة، والعمل المضني، ازداد اندهاشا بما يراه فيلما متكاملا على الشاشة.

إنه فيلم بالمعنى الحقيقي للكلمة يشاهده المتفرج، يروي حكاية امرأة شاخت وتستعيد قصص حبها القديمة مع أربعة رجال لكل منهم رائحته وخصوصيته والذكريات التي تركها في البال، وكذلك الصور التي تمر شريطا رومانسيا، مليئا بالحنين في رأس المرأة العجوز، وهذا تماما ما يصوره الفيلم. أما كيف يتم التصوير؟ فهذه قصة أخرى تستحق أن تشاهد، وربما أكثر من مرة.

على الخشبة يستخدم فريق العمل طاولات صغيرة، تشبه تلك التي نستخدمها في المطبخ، كل منها يحضر بديكورات منمنمة صغيرة، بحجم أشياء اللعبة «باربي»، سواء كانت أسرّة أم خزانات، أم كنبات، أم منازل وسيارات. ليس جزافا أن يعطى هذا العرض الفذ اسم «قبلة وصرخة» والتعريف به بأنه من نوع «راقص النانو». فهو ينطوي على فيض من الحب وكثير من الحزن والاحتجاج، وكل المشاهد تصور باستخدام قطع هي أقرب في حجمها إلى أحجار لعبة «الليغو» سواء لتجسيد المرأة العجوز أو البيوت أو حتى القطار، الذي يكاد يكون الرمز الأهم لنجول مع السيدة المسنة في تذكاراتها القديمة.

مفاجأة أخرى في العرض، قد تكون من بين الأجمل، هي استعمال أصابع أيدي الراقصين، بقدراتها التجسيدية الفائقة المهارة، لتلعب دور الشخصيات. راقصة وراقص يقومان بهذه المهمة المدهشة، منذ اللحظة الأولى للعرض، تتحرك الأصابع أمام الكاميرا فيما يسلط الضوء عليها لنفهم أن الحبيبين هما دائما هذه الأصابع الرشيقة التي تجلس على الكنبات.. تتعانق.. ترتاح في الأسرة.. تتمشى.. تتصادم.. تتصالح، وهي أيضا التي تحرك الديكورات وتقلبها وتنقلها وتتعارك معها. ليس مبالغة القول إن «قبلة وصرخة» عمل يحاول أن يخطف الأنفاس، ليس فقط في جدته وابتكاريته؛ وإنما في دقة وعذوبة لقطاته، التي تعتمد على المجازفة ببث مباشر لما تصوره الكاميرا. وبالتالي، فإن أي خطأ تحت مجهر العدسة التي تعمد إلى التكبير، سيبدو فاقعا وصادما. لهذا يعمل الفريق بعناية، ويتابع المتفرج بحرارة، ويبقى مشدودا منذ اللحظة الأولى وحتى المشهد الأخير.

فريق العمل، يستخدم الألعاب البلاستيكية صغيرة الحجم لتركيب ديكوراته ولتصوير مشهدياته المتتابعة والمتنوعة المناخات.. مرة غرفة نوم، ومرة أخرى حديقة أو ساحة رملية يغوص فيها أشخاص يتناثرون في الأنحاء. قطعة قماش تطير بواسطة هواء مجفف شعر، تتحول إلى أمواج يبحر عليها قارب، ونفثات سيجارة من فم أحد أفراد فريق العمل تجعل أجواء الصورة تعبق بالضباب، وقطار مثل الذي نشتريه لأطفالنا تسافر على متنه السيدة العجوز التي تستعيد ذكرياتها.

لا يهمل العمل عنصرا يمكن أن يجعل المشاهد أكثر تأثرا إلا ويستخدمه؛ فالموسيقى التصويرية مختارة بعناية فائقة لتناسب كل محطة من محطات مشاعر المرأة في هبوطها وصعودها. أما النص، فأهميته في روحه الطفولية العذبة. المرأة العجوز هي الراوية، وعلى لسانها يتدفق كلام، فيه من البساطة والوداعة والحكمة ما يجعله على حافة الانزلاق إلى التبسيط الساذج. لكن النص من الذكاء بحيث يبقى محافظا على نضارة ونضج محيرين. غير أن طفولية الكلام تتناسب وتندمج مع القطع الصغيرة التي هي أشبه بالألعاب المستخدمة في الديكورات، ومع روح العمل ككل في نعومتها ورقتها.

عمل مغامر، يسير على حافة سكين، ويبقي متفرجه حبيس الأنفاس، ومعلقا بعد كل مفاجأة بمفاجأة أخرى تتلوها.

كم هو سهل أن تصور فيلما متكاملا من حواضر البيت؛ تقول لنفسك وأنت تشاهد كل طاولة صغيرة على المسرح وقد تحولت إلى استوديو متكامل، لكنك تعي أيضا أنك أمام أحد عجائب السهل الممتنع، وأنه لولا عبقرية فذة، وخيال دفاق ما كان لهذه التحفة الراقصة أن تولد بديعة على هذا النحو.