أنطوني تابييس.. آخر عمالقة التجريدية

غيبه الموت منذ شهر.. وستظل أعماله حاضرة

من أعمال الفنان
TT

لم يكن وداع الفنان التشكيلي الكتالوني أنطوني تابييس، آخر الفنانين التجريديين، مؤخرا وداعا عاديا، لما تركه من فراغ في الأوساط الفنية العالمية، تاركا تاريخا حافلا في مسيرته التي تتجاوز 8 عقود.

تابييس الذي ولد في برشلونة عام 1923م، وحصد العديد من الألقاب والأسماء خلال حياته الفنية؛ من بينها لقب «ماركيز» الذي منحه إياه الملك الإسباني خوان كارلوس عام 2010 بوصفه مبدعا استثنائيا مؤثرا أنجبته إسبانيا وبسبب إنجازاته البصرية الطليعية، وتصدر خبر وفاته الشهر الماضي أبرز الصحف العالمية حيث وصفه معظمها بـ«آخر العمالقة».

ولمن لا يعرف تابييس، فقد اختار له والده دراسة القانون، لكن موهبته الفنية تغلبت على رغبة والده والتحق بمنحة دراسية عام 1950 إلى باريس وهناك التقى بابلو بيكاسو حتى صار هذا الحدث في ما بعد خالدا في ذاكرته التاريخية ومنحنى في مسيرته الفنية.

تأثر تابييس في طفولته المبكرة بالفنان بول كلي وصديقه خوان ميرو الذين جمعتهم علاقة وطيدة. واستخدم تابييس في بداية حياته الفنية القصاصات الورقية وقطعا من الصحف ذات الألوان الصفراء والبيضاء، وهي الخامات التي طور وزاد من حضورها في أعماله الإبداعية حتى أصبحت أهم سمة فيها، مما عزز مكتسباته في الخمسينات تجاه التجريدية الغنائية في الوقت التي كانت تتسع في أميركا لموجة التجريدية التعبيرية، وقد بلغت أشد معطياته الجمالية حضورا في إعادة تأهيل المواد والقطع والآثار المهملة مثل الأبواب القديمة والأثاث وقطع القماش والأحبار وخليط من الأتربة وكميات كبيرة من مواد لاصقة وشرائط من القماش الأبيض الشفاف وحبال متهرئة.

وبدت حساسيته الجمالية أشد حضورا وذاع صيته بوصفه آخر عمالقة التجريدية في القرن الماضي، وسجلت معارضه في أوروبا والعالم حضورا لافتا على الصعيد الفني، وحفلت تجاربه بمزيج متنوع من الأعمال المرهفة والمدهشة وكشفت براعته الفنية قدراته على التعامل مع الفراغ في اللوحة، وشكلت هذه القيمة أبعادا جديدة في التحولات البصرية في الفن حتى أصبح الفراغ من أهم القيم الجمالية التي انتصر لها.

لم يجد تابييس في العالم المادي أية قيمة جمالية مثيرة للاهتمام ربما بسبب تعاليمه الدينية المبكرة، وظل يناضل من أجل الانتصار لبلاغة متخيلاته الجمالية التي تتصل بعناصر بسيطة أغلبها في متناول أضعف طبقات المجتمع مكانة، مثل بقايا قطع الخشب المستهلك والمواد الغريبة والمثيرة والألوان المتقشفة وطلاء الجدران وقطع لا تحصى من الحديد والأسلاك.

من هنا انطوت أعماله الفنية على براعته في البساطة والعفوية وكثير من التلقائية والعبثية خاصة عندما كان يوظفها على كميات وطبقات من الأتربة والمواد اللاصقة وأقمشة من الجوارب المستعملة وقطع مبللة، مسترسلا في عمليات من الكحت والحفر والخدش كما في جدران قديمة متآكلة ومتكلسة ويزيد من عفويتها بضعة خطوط وخربشات وضربات فرشاة متهرئة.

يعد تابييس واحدا من أهم عمالقة الفن الذين أنجبتهم إسبانيا، وقد حققت منجزاته الفنية دورا طليعيا في نظم الفكر الجمالي التجريدي بوصفها تجارب وسعت من نطاق مفاهيم التأمل الفني الخالص بسبب الروحانية المتقشفة التي تتمتع بها أعماله.

لا يمكن لمشاهد أعمال أنطوني تابييس أن يمر عليها مرور الكرام؛ فهي تأسرك ببساطة طقوسها الفنية، وتشغلك ببساطة أنساق تحتفي بالروح والعقل معا.