حرفيو سوق الصفافير لـ «الشرق الأوسط»: الحكومة أهملتنا والزبائن انشغلوا بتأمين قوتهم

أشهر أسواق بغداد وأقدمها تعلن الصمت والعصيان

صاحب محل في سوق الصفافير ببغداد («الشرق الأوسط»)
TT

لزمن طويل، امتد لمئات السنين، ظلت سوق الصفافير وسط العاصمة بغداد، واحدة من أجمل وأشهر الأسواق المحلية التراثية، التي يقصدها الزوار والسياح من كل صوب، يحرصون على اقتناء معروضاتها كهدايا مميزة لأهلهم وذويهم، بما تمتاز به من جمال صنعتها ولونها الأصفر البراق، لكن الحال اليوم تغير كثيرا، وحمل معه عقوقا كبيرا لهذه السوق التي خفت نورها وقل ضجيجها المميز، تحاصرها زحف مهن أخرى لا تمت بصلة لتأريخها الحافل، مقابل صمت الجهات الحكومية، وهجرة معظم حرفييها إلى الخارج.

«الشرق الأوسط» تجولت في السوق التي ضرب بها المثل الشعبي الشهير في وصف الضوضاء، «ضجيج كأنك في سوق الصفافير»، لكن اللافت أن السوق بدت كأنها التزمت الصمت والعصيان، على إهمالها وابتعاد الزبائن عنها، فخفتت ضربات الصفارين على الأدوات النحاسية، ومعها بهت اللون الأصفر للنحاس، علامة السوق الفارقة.

يمتد الشارع الذي يعود تاريخه إلى العصر العباسي ويمتهن تطويع المعادن لصنع الأواني المنزلية وأباريق الشاي وغيرها إلى مسافة مائة متر تقريبا وسط شارع الرشيد، أقدم شوارع العاصمة بغداد، في زقاق ضيق تتراص فيها المحلات الصغيرة كأنها حزمة واحدة، تحيطه أسواق شهيرة، وقد أخذ تسميته من طبيعة تخصصه بكل ما هو مصنوع من مادة النحاس، أو مادة الصفر كما يتداولها العراقيون، مدخله الرئيسي يقع قبالة المدرسة المستنصرية، والتي ما زالت قائمة إلى الآن، باعتبارها جزءا من التراث لينتهي عند شارع الرشيد. كانت هنا تسمع معزوفات يومية تبدأ منذ الصباح الباكر وتنتهي مع إغلاق آخر محل أبوابه، تلك هي إيقاع الطرق إلى صفائح النحاس لتحولها إلى أعمال فنية فريدة من نوعها.

يقول الحاج عامر الصفار، 55 عاما، لـ«الشرق الأوسط»: «أعمل هنا منذ 25 عاما، لكن ما أنجزه اليوم لا يشبه الأمس، فقد اقتصر عملي على صناعة ما يسمى بـ(خرخاشة العلم)، قمة أو رأس العلم، التي تستخدمها العشائر العراقية لتميز بعضها عن الآخر، إضافة إلى الدلال العربية التي يطلبها أصحاب المضايف في بغداد والمحافظات أيضا».

وتابع قائلا «السوق اليوم في طريقها للاندثار بسبب قلة السياح وعدم استقرار الوضع الأمني بالشكل الذي نتمناه، حتى أن الناس اليوم لا تهتم بالصناعات التراثية والجمالية قدر اهتمامها بتأمين قوت يومها». واستدرك وهو ينظر بأسى على ما تبقى من آثار السوق قائلا «كانت السوق تضم أكثر من مائة محل متجاور لهذه الصناعة، لكن اليوم لم يتبق غير عشرة محلات تقريبا، بعد أن زحفت محلات العدد اليدوية وأدوات المطابخ إلى السوق حيث ضيعت هويتها تماما».

وعزا زميله جواد باقر أبو سجاد، 15 عاما في المهنة، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أسباب اندثار السوق إلى توجه الناس لشراء أدوات المطبخ المستوردة والمصنوعة من معادن الألمنيوم (الفافون حسب التسمية العراقية) والستيل والتيفال والزجاج لخفة وزنها وسهولة تنظيفها، «وما ننجزه اليوم هو طلبات التحفيات وقطع النحاس والآيات القرآنية لتزيين الأبواب والبيوت، إضافة إلى توفير طلبات صنع الباجات ولوحات الدلالة والدروع لدوائر الدولة الحكومية»، ولم ينس أبو سجاد أن يعرض على «الشرق الأوسط» بعض لوحات معدنية مدورة ومنقوشة تضم صورا لأبرز الزعماء والشخصيات العربية والعالمية، معللا توفيرها إلى طلبها من قبل الجهات الرسمية التي تزور البلاد.

في حين شكا حرفيون آخرون في السوق، غياب الدعم الحكومي للحرف اليدوية والصناعات التقليدية الوطنية بمستوى ما تقوم به الدول المجاورة من حماية لمعالمها وآثارها وحرفها التراثية من الاندثار عبر غزو أصحاب المهن التي لا علاقة لها بعمل السوق وقلة الطلب على البضاعة من قبل الناس مما تسبب في هجرة معظم حرفييها القدامى إلى الخارج. يقول الحاج ناجح معله، 55 عاما، لـ«الشرق الأوسط»، إنه توارث مهنته عن آبائه وأجداده، وعمل فيها منذ الصغر، عندما كانت السوق تعج بالزوار وطلباتهم التي تتركز على صناعة تجهيزات العروس من صحون ودلال قهوة و«طشت» لغسل الملابس، وغيرها، لكنها اليوم غدت من المهن التراثية التي تحتاج إلى اهتمام أكثر حتى لا تتعرض للزوال، وبالتالي ضياع جزء مهم من جمال التراث العراقي وأصالته.

هذه السوق التي تعد معلما من معالم بغداد الأصيلة يعود تاريخها إلى العصر العباسي، ويرتبط بناؤها ببناء المدرسة المستنصرية قبل أكثر من ألف عام مع سوق الخفافين ومقهاها، وقد زاره على مدى تاريخه، خلال العصر الراهن على الأقل، رؤساء دول ووزراء وفنانون ومثقفون وسياح من مختلف أنحاء العالم، وكان يقال «من لا يزور سوق الصفافير ويتبضع منها أو يشتري قطعة فنية من أحد حرفييها من باب الذكرى، كأنه ما زار بغداد». سوق الصفافير وموسيقى الطرق على النحاس، وألوان وأشكال منتجاتها، التي هي في الغالب قطعة ذات نسخة واحدة، لم تغلق أبوابها سوى يوم الجمعة، وحصل أن أغلق الجميع محلاتهم يوم مات الملك غازي، ثاني ملوك العراق، حزنا عليه وللمشاركة في تشييعه، لكن إهماله اليوم، كما نهمل أجمل رموز بغداد، وفي مقدمتها شارع الرشيد ومقهى حسن عجمي وسوق المرايات (المرايا) وغيرها، سيؤدي بالتأكيد إلى إغلاقها كسوق للصفارين وستصبح كأي سوق تجارية اعتيادية لا ميزة مهمة لها، وعلى أمانة العاصمة ودائرة التراث أن تنتبه لذلك قبل فوات الأوان.