مسرح «خيال الظل» يعود إلى لبنان آتيا من تركيا

الـ«كركوز» أمتع أجدادنا ولا يزال حيا يثير الفضول

جنكيز أوزبك يعرف الحاضرين على شخصياته
TT

عاد الـ«كركوز» إلى لبنان، لكن اللبنانيين الذين يستخدمون هذه الكلمة للسخرية من شخص يلجأ إلى التهريج قائلين له «ليش عامل حالك كركوز؟!» لا يعرفون مصدر الكلمة، ولا يدركون أنها تخفي وراءها فنا كبيرا اندثر، وإرثا يستحق النبش عنه واستعادته.

كان لا بد لـ«مهرجان الربيع» أن يبادر إلى إعادة «كركوز» إلى الناس، وطوال ثلاثة أيام اكتشف الجمهور هذه الشخصية التي يختزنونها في ذاكرتهم الجماعية، وفي لا وعيهم الثقافي، عندما كان أجدادهم يتابعونها من خلال مسرحيات «خيال الظل»، مع شخصية أخرى لا تقل شهرة وهي «عيواظ». اختفى مسرح «خيال الظل» الذي ظهر منذ العصر العباسي ونشط وازدهر في العصر المملوكي وبقي موجودا ومحبوبا من الناس حتى النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن يختفي وتبقى أسماء بطليه الشهيرين على ألسنة الناس.

عودة «كركوز» مجسدا إلى لبنان، تحققت بفضل الفنان التركي جنكيز أوزبك، أحد ثلاثة في العالم لا يزالون يقدمون مسرح «خيال الظل» للجمهور العريض. جاء أوزبك ليفتتح «مهرجان الربيع» الذي يقام سنويا بين لبنان ومصر، وتقدم حفلاته هذه السنة في ست مدن في البلدين.

الافتتاح كان على مسرح «بيت الفن» في طرابلس حيث عرض أوزبك مسرحيته «وحش القمامة»، وتلاه عرضان للمسرحية في «مسرح دوار الشمس» في بيروت. أوزبك يقدم عمله على الطريقة التقليدية محافظا على عناصر مسرح «خيال الظل» التي صنعت سحره وجاذبيته، مع مسحة حداثية لا بد منها ليبقى مشوقا للجيل الجديد.

صغار وكبار بدوا متحفزين لاكتشاف ما هو «خيال الظل» الذي سمعوا عنه. الشاشة التقليدية بحجمها المتوسط التي ما هي إلا غلالة بيضاء تتحرك وراءها الشخصيات مضاءة كأنها شاشة سينمائية حقيقية، حولها الإطار الداكن. نرى في البداية مزهرية ملونة ويد تقترب منها. اليد تشبه في حركتها نحلة تحوم حول الزهر، مع أصوات أزيز سريع، شبيه بتلك الأصوات التي نسمعها في الرسوم المتحركة.

الحكاية طريفة وطفولية عن سمكة حمراء تبتلع كل ما يرمى في البحر. وبما أن البشر باتوا يلقون بما لا يحصى من النفايات في مياه البحار دون أن يعبأوا بحياة المخلوقات التي تعيش فيه، فقد باتت السمكة تبتلع فوق طاقتها وتتضخم. شخصان يبدوان على الشاشة، يتحركان كل من جهة. مهارة في التحريك تصاحبها موسيقى حية، تارة على دف، وتارة أخرى على مزمار.

ينتقل بنا أوزبك الذي يختفي خلف الشاشة محركا هذه الشخصيات، وحده بواسطة القضبان، متحدثا بأصواتها المتغيرة، إلى قاع البحر، لنرى السمكة ومعاناتها، في ما يظهر قارب فوق البحر فيه «كركوز». الإضاءة تلعب دورا أساسيا هنا لترينا الأعماق البحرية الزرقاء والسمكة التي تبتلع في نهاية المطاف حتى زجاجات البلاستيك، لكن المفاجأة أنها تنتهي بابتلاع الرجل نفسه الذي ما إن يجد نفسه في ظلام بطنها حتى يضيء قداحته فتعطس عطسة قوية وتبصقه من فمها.

تقنيات رغم بساطتها وقدمها، يعمل عليها أوزبك بمهارة حتى نشعر أننا أمام فيلم من أفلام الرسوم المتحركة لشدة ما هو قادر على التحكم في مفاصل شخصياته، بحيث يجعلها تضحك وتقفز، تنحني وتعود واقفة جالسة الظهر.

النص يكاد يكون عنصرا رئيسيا في العمل، وأن يقدم بالتركية دون أي ترجمة أو عون للجمهور، لم يساعد كثيرا في فهم الحكاية، لكن الفضول لاكتشاف تقنيات هذا الفن الشرقي المتجذر في التراث العربي، جعل متعة الفرجة تغلب على كل ما عداها.

الجمهور يضحك، يترقب، يتفاعل، ينتظر ما سيحدث للسمكة الملونة وهي تنتفخ مثل البالون. وثمة من انشغل بمراقبة الرجل الثاني الذي يدير العمل مع أوزبك دون أن يختبئ بشكل كامل عن الأنظار، ولنقل إنه مساعده، الذي كان يصاحبه بنقرات سريعة على الدف، تجعل كل حركات الشخصيات تترافق ومؤثرات صوتية حية. وحين كنا نشاهد أعماق المياه كان الرجل (مساعد أوزبك) ينفث بواسطة «قشة شرب»، في حوض من الماء، فيصدر صوت فقاقيع مائية تضخمها الميكروفونات فنشعر أننا نغوص حقا في الأعماق.

مسرح «خيال الظل» من أصول صينية تعود بداياته إلى نحو خمسة آلاف سنة، انتقل إلى بلاد الشام ومصر وتركيا، وشاع في المنطقة خلال العصور الإسلامية، وبقي موجودا حتى النصف الأول من القرن العشرين. وكان فنانوه مؤثرين في مسار الحياة الاجتماعية وحتى السياسية، من خلال قصصهم التي يتابعها الناس. واشتهر من بعض هؤلاء الفنانين من كان ينتقل من بلد إلى آخر، راويا قصصه، مروجا لبعض الأفكار التي آمن بها من خلال الحكايا وميول الشخصيات، حتى أن منهم من كانت تدفع لهم الأموال مقابل الترويج لسلعة ما، تماما كما تبث الدعايات اليوم في دور السينما.

وإن كان لبنان قد فقد كليا هذا الفن، مع دخول المسرح الغربي، حيث الميل نحو «التأوروب» كبير للغاية، فقد بقي في سوريا من يعنى بـ«خيال الظل»، ولو من حيث الأبحاث والدراسات، والاهتمام بالشخصيات التي لا يزال بعضها موجودا في متحف العظم في دمشق. أما في مصر فيعتقد الباحثون أن المسرح الغنائي المصري، استفاد بشكل كبير من «خيال الظل». فمسرح «خيال الظل» ينطوي بين أهم عناصره على أغنيات مؤثرة، قد لا يكون لها أدنى علاقة بصلب الحكاية، وهناك الراوي وهو المحرك القادر على تقمص الشخصيات والتنقل بينها في الصوت والإحساس.

على أي حال لقد عرفت اليونيسكو أهمية هذا الفن، وبدأت تهتم بالحفاظ عليه، وما شاهده اللبنانيون نهاية الأسبوع الماضي من عرض تركي، عاد بهم إلى فنون أجدادهم، يراه المصريون بفضل عرضين يقدمهما أوزبك يوم 23 من الشهر الحالي في المنيا وآخر يوم 25 في القاهرة، ودائما ضمن برنامج «مهرجان الربيع».

جدير بالذكر أن جنكيز أوزبك يعمل في مسرح «خيال الظل» التقليدي منذ عام 1977 وكان عمره حينها 13 عاما، وله مسرحيات عديدة. وفي عام 1988 أسس في إسطنبول مهرجانا عالميا للعرائس، في محاولة لجمع فناني التحريك في نشاط واحد. ومن خلال الورشات التي أقامها أوزبك في طرابلس وبيروت، تمكن من نقل بعض من خبراته لاختصاصيين تربويين، معلما إياهم كيفية عمل الشخصيات التي عرف تقليديا أنها تصنع من الجلود، وخاصة جلود الأبقار، بعد تنظيفها وتلوينها وكيها، لتثبيت الألوان عليها.