مدينة ليستناو النمساوية.. سوق المنتجات القطنية للدول الخليجية والأفريقية

تنازعت عليها الدول الأوروبية خلال الحرب.. والآن تزود فرق كرة القدم بأمهر اللاعبين

ليستناو.. اكتسبت مصانع النسيج فيها شهرة خاصة جعلتها المدينة الأولى عالميا بسبب تخصصها في إنتاج أنواع مميزة من المنسوجات القطنية المطرزة
TT

عندما يذكر اسم مدينة «ليستناو» يعدد النمساويون أسماء أبنائها ممن نجحوا في الحقل الرياضي وكرة القدم، ممن أثروا فرق الدوري النمساوي. كما تعود ذاكرة كبار السن لتاريخ ليستناو الذي تنوع من مدينة نمساوية حدودية ثرية إلى مدينة محتلة نجح الألمان في ضمها إلى إقليمهم بافاريا، ثم استعادها النمساويون من جديد، وبعد الحرب العالمية الثانية احتلها الفرنسيون.

خلال ذلك السرد التاريخي لن يفوت كثيرين أن يتذكروا كم مرة غمر نهر الراين بفيضاناته مدينة ليستناو، مما تسبب في فقر معالمها وبساطة بنيانها، خاصة أن الراين يفصل ليستناو، التي تقع جغرافيا في أقصى بقعة بإقليم فورالبرغ غرب النمسا عن دولة سويسرا.

في يومنا هذا، ما تزال ليستناو مدينة صغيرة حجما؛ إذ لا يزيد عدد سكانها على 20 ألف نسمة، وما تزال مبانيها بسيطة وإن تم تجديد مساحات واسعة منها لبناء مصانع نسيج اكتسبت شهرة خاصة جعلت المدينة الأولى عالميا؛ بسبب تخصصها في إنتاج أنواع مميزة من المنسوجات القطنية المطرزة، أو ما يعرف باسم «الليس»، وتلك الثقيلة المخرمة التي تعرف باسم «البرودري»، مما أعاد ليستناو للصدارة كمدينة نمساوية صناعية تجارية أصبحت ترتبط بعلاقات خاصة ومباشرة بدول، في مقدمتها نيجيريا من غرب أفريقيا، وحديثا توسعت تلك العلاقات لتشمل السودان ودول الخليج قاطبة.

مهارة مصانع ليستناو، ومعظمها مصانع صغيرة لا يزيد عدد عمال أكبرها على أربعين عاملا وتعود ملكية معظمها لأسر قديمة بالمدينة، أكسبتها نكهة خاصة جدا، إلا أن طبيعة العمل ونوعية الحياة في مدينة صغيرة وبعيدة جعلت الجميع يعملون كشبكة متواصلة، خاصة أن الزبائن أو العملاء فرادى أو جماعات من أجانب يقصدونها مباشرة، سواء من لاغوس أو جدة أو الخرطوم أو دبي أو الكويت، دون أن يكون لهم معارف غير أصحاب المصانع الذين ينظمون الحركة من محطة القطار، ومن ثم من مصنع ينقلهم للآخر، وهكذا حتى تكتمل مهمة التسوق، ويحط الزبون مرة أخرى في محطة القطار التي تنقله لأقرب مطار خارج المدينة، سواء في سالزبورغ أو فيينا. وعادة في أريحية شديدة ينشط أهل البلد لتوفير أي معلومة، سواء عن فندق للإقامة أو عنوان مطعم من بين تلك القلة الموجودة بالمدينة.

وعلى الرغم من حرص أصحاب المصانع لتأمين أنسجتهم وأقمشتهم بعلامات مميزة تحمل عبارة «صنع في النمسا» خشية التقليد، لا سيما من مصانع صينية منافسة، فإن العمالة الصينية النشطة، فيما يبدو، قد نجحت في الوصول إلى ليستناو، لا سيما وقد امتلك صينيون فنادق حديثة معقولة الثمن يقصدها المتسوقون فأصبحت لذلك معقلا للسماسرة وأصحاب المصانع الذين يقصدونها في ساعات مبكرة من الصباح لاقتناص الزبائن وتوجيههم لمصانعهم.

وبجانب نجاحها في اجتذاب كبار تجار القماش ومن يبيعون بالجملة، نجحت مصانع ليستناو في خلق علاقات مع نوعيات أصغر قوامها النساء اللائي يعملن في التجارة متجولات من منزل إلى آخر، أو كما شرحت لـ«الشرق الأوسط» النيجيرية الحاجة فولماتو ديالو فان، التي ظلت تعمل فيها لأكثر من 21 سنة، بدأتها برأسمال صغير نسبيا، وكبر عاما بعد عام، كما كبر عدد زبوناتها ممن تبيع لهن بيعا نقديا مباشرا أو بالأقساط والسلف, مبدية في معرض حديثها فهما عميقا لأولويات التجارة، واستيعابا واضحا لما تسببت فيه الأزمة الاقتصادية من حالات انكماش انعكست على القدرة الشرائية، مما تطلب منها تغييرا في نوعية التعامل وتسهيلات لترويج بضاعتها. وأوضحت الحاجة فولماتو أن المرأة النيجيرية عموما معروفة بحبها للأقمشة المطرزة التي تناسب الملابس القومية التي تتنوع بتنوع القبيلة والمناسبة، سواء زواج أو مأتم أو للاستخدام اليومي البسيط.

من جانبه فاجأ النمساوي رايموند «الشرق الأوسط» بالحديث بلغة عربية بسيطة، مشيرا إلى أنه وآخرين من العاملين بالمصانع بدأوا في تعلم اللغة العربية حتى يسهل خطابهم مع عملائهم الجدد من الخليجيين وأهل السودان، مشيرا إلى أن هذه أسواق جديدة أصبحت تهمهم أهمية بالغة بجانب اهتمامهم بالسوق النيجيرية الضخمة (154 مليون نسمة) وبعض أسواق غرب أفريقيا، مثل الكاميرون ومالي والسنغال، المعروفة بأناقة تصميماتها، مشيرا إلى أن لكل سوق من هذه الأسواق متطلباته وذوقه في التصميمات ونوعية وثقل الأنسجة، فالثوب السوداني على سبيل المثال خفيف عادة ولا ترغب السودانيات كثيرا في التطريز الذي ينفش ويكبر من حجم الثوب، بل يفضلن القطنيات الملونة تلوينا سادة، وتلك المطبوعة بأشكال مختلفة وألوان متداخلة، مضيفا أن السودانية وإن كانت تعجب مثل الخليجية بالشيفون الناعم الشفاف، فإنها لا تستخدم الأورغنزا، فيما تعتبر النيجرية سيدة الليس والأقمشة المطرزة التي يستخدمها دون تخريم الرجل النيجيري والغرب أفريقي عموما.

إلى ذلك لم يغفل أصحاب مصانع أن يذكروا لـ«الشرق الأوسط» أثناء جولة قامت بها لأكثر من مصنع بعد رحلة طويلة استغرقت بالسيارة 7 ساعات من فيينا، اجتازت خلالها أكثر من إقليم من أجمل الأقاليم النمساوية طبيعة وتضاريس، أن العمل في هذه المهنة التي شبهوها بتجارة الحرير التي سادت في الماضي، أصبحت أيسر كثيرا بسبب التطور التقني الذي سهل التعامل إلكترونيا لمعرفة الرغبات والعدد والأسعار، ومن ثم ترسل الطلبيات عن طريق البريد، ليس ذلك فحسب، بل عمدت بعض المصانع إلى فتح أفرع في الخليج وأفريقيا، بينما تحرص أخرى على إرسال مندوبين للوقوف على آخر صيحات الموضة من حيث الألوان والتصميم والرغبات، والعودة إلى ليستناو لتنفيذها.

من جانبها تبدي الحكومة النمساوية اهتماما بالغا بهذه الصناعة النسيجية كعلامة مميزة للنمسا، فسعت لتأريخها كعلاقات تجارية وثقافية مهمة، وفي هذا الإطار استضاف متحف «حضارات الشعوب» بالعاصمة فيينا عرض أزياء هو الأول من نوعه، شارك فيه مصممو أزياء من نيجيريا استعانوا بعارضين من جنسيات مختلفة، أما المنسوجات والأقمشة فنمساوية الصنع من مصانع ليستناو بالتحديد.

وسط قاعة المتحف الشاسعة الشاهقة الأنيقة، ومن خلال ذلك العرض المدهش، نجح المنظمون في تسليط الضوء على علاقة تاريخية ثقافية وتجارية مميزة تربط تلك المدينة النمساوية الصناعية متناهية الصغر بأكبر سوق للأقمشة المطرزة والليس والبرودري، ليس في أفريقيا فحسب، بل عالميا، إلا وهي سوق «كوسوكو» في مدينة لاغوس النيجيرية الضخمة، جاذبين الأنظار لمستقبل العلاقات التي بدأت تزدهر «نسيجيا» بين ليستناو والكويت ودبي وجدة والخرطوم.