لبناني يحول ملجأ عمره 400 عام إلى كهف للفنون

وضعه على لائحة المتاحف السياحية اللبنانية

غرفة الجلوس داخل الكهف تزينها مقتنيات تراثية قروية
TT

في بلدة «الجاهلية»، الواقعة على الطرف الجنوبي الغربي من مناصف الشوف في جبل لبنان، مكان كفيل بتأمين متعة النظر وراحة النفس لزائره. إنه موقع أثري، يتمثل في «كهف الفنون» لصاحبه الفنان غاندي أبو ذياب، الذي تكاد الرحلة في أقبيته تتحول إلى رحلة جاذبة في الطبيعة والتراث القروي، في جبل لبنان. «حرصت أن أجمع في متحفي، كل ما أبدعته أنامل الطبيعة من أشكال فنية وتخلت عنه. تعلقي بالطبيعة كان الحافز على ترميم الأقبية الثلاثة، وتحويلها إلى كهف يجمع في لوحاته التراثية، كل ما يمت إلى القرية القديمة بصلة»، هكذا قال غاندي لـ«الشرق الأوسط».

كل ذلك فعله أبو ذياب بهدف استعادة الماضي، من خلال الرؤية المجردة، وليس من خلال التاريخ والقصص والروايات فحسب.

تجربة فريدة من نوعها تضم حديقة وكهفا تجاوز عمره 400 عام، وقد استعمل قديما في العهد العثماني مقرا لعقد اللقاءات والاجتماعات المهمة، بين المتصرفين ووجهاء القرية، فضلا عن أنه شكل ملجأ آمنا للسكان الهاربين من القصف اليومي في فترة الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990)، وفي فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. منذ أوائل الثمانينات تحولت تلك الملاجئ الثلاثة بالنسبة إلى أبو ذياب هاجسا وحلما، فقرر تحويلها إلى كهوف سياحية ثقافية وتراثية، تستقطب رواد الفن والرسم، والنحت والأدب والشعر، والطلاب والباحثين عن جذور التراث وأنماط حياة الأجداد. في حديقة أبو ذياب تستوقفك مجموعة خشبية فنية قيمة، وفي ذلك يشرح: «معظم جذور الأشجار اليابسة المطمورة والأغصان اليابسة، تبقى أروع من تلك الخضراء، هذه المجموعة من مخلفات (الجرافات) التي اقتلعت الأشجار أثناء شق الطرق الزراعية، جمعتها وقمت بتنظيفها ووضعها في مكانها المناسب». هنا يجذبك مجسم لطائر البط مصنوع من الصبار، وهناك نسر مصنوع من جذع الزيتون، وهنالك العقرب والغيتار المصنوعان من جذع الدلب، تقابلها آلة الساكسوفون والغليون من غصن اللوز. تحف خشبية تشكل دليلا قاطعا على أن للطبيعة لمستها الإبداعية الخاصة في تشكيل مكنوناتها، مستخدمة في وقت واحد بعضا من أدواتها التقليدية كالنار والماء والهواء والتراب.

أما داخل كهف الفنون - ذلك المكان البارد طبيعيا صيفا والدافئ شتاء - فتحيط بك مفردات حياة الطبيعة البسيطة كيفما تحركت، من قناديل الزيت المعلقة، إلى مدفأة ومكواة على الفحم، يجاورها آلة يدوية لتحميص البن وقناديل الكاز.

وما هي إلا لحظات حتى يفاجئك جدي مصنوع من القطن الطبيعي جالس في إحدى زوايا القبو، فيما تتربع غرفة جلوس تراثية على بعد بضعة أمتار منه، بكراسيها المصنوعة من أغصان السنديان اليابسة. وفي زاوية أخرى، تحولت عظام حيوانات إلى أشكال لطيفة، تحيط بها قفران النحل والدبابير، فضلا عن أزهار عباد الشمس المتميزة بأشكالها المنسقة، فيما تحولت أغصان وأكواز الصنوبر إلى ثريا ابتدعها أبو ذياب بأنامله الفنية. وفي القبو الثاني، يلفت الزائر رجل مصنوع من الكستناء، ومجموعة كبيرة من المكاوي التراثية، وأدوات الفلاحة ومستلزمات القرية اللبنانية التراثية، منها المحادل والأجرار والخوابي العتيقة (طناجر نحاسية) والمواقد الطينية، والبلطات والغربال والمحراث الخشبي.

ولم يغفل أبو ذياب الاهتمام بالطرابيش التقليدية، حيث خصص خزانة لعرضها، لتكون الدهشة بعد لحظات بانتظارك، عندما تلقي التحية بشكل عفوي على جدين مسنين (الشيخ والشيخة) يستقبلانك بالترحاب، لتكتشف أنهما تمثالين من القماش من صنع والدته. واللافت في هذه الصومعة الطبيعية أبيات الشعر التي كتبها ابن بلدة الجاهلية على أوراق البردي بوصفها تعبيرا صادقا عن تعلقه الشديد بالطبيعة. نحو 300 قطعة بين صغيرة ومتوسطة وكبيرة الحجم تعود إلى ما بين 50 إلى 200 عام مضت، ابتدعها أبو ذياب أو تدخل في بعض تفاصيلها مع محافظته على تصميم العقد الذي يميز كهفه. وردا على سؤال لـ«الشرق الأوسط»، قال «عاشق التراث الجبلي» كما يصف نفسه: «مقتنياتي مصنوعة من القماش أو الطين، أو الشمع أو القصب أو الحجر، أو من خشب السنديان والأرز، وأحيانا من العظام والقش والقمح ومخلفات الطبيعة».

ويشكل نجاح أبو ذياب في استحداث حياة جديدة ساحرة من هذا العدد القليل نسبيا من المقتنيات، دليلا على حرصه على نوعياتها أكثر منه على أعدادها.

حتى اليوم أنفق مؤسس «كهف الفنون» أكثر من نصف مليون دولار على متحفه وحديقته، استطاع جمعها من إيرادات عمله مزينا نسائيا، ومن بيع لوحاته الزيتية، حتى نجح في إدراج كهفه على لائحة المتاحف السياحية في لبنان.

كيف استطاع النحات أبو ذياب جمع هذه الثروة التراثية؟ يؤكد أن الفضل بالدرجة الأولى يعود لأهله، وثانيا للأصدقاء وأبناء القرية، فلطالما كان والداه «ينجذبان إلى أي قطعة تناسب المتحف فيقوم صاحبها غالبا بإرسالها إليه هدية».

مع الإشارة إلى أن الشاعر أبو ذياب كان يضطر ووالداه أحيانا إلى شراء قطع يفتقر إليها متحفه عند معرفتهم بوجودها داخل أو خارج القرية، ثم هناك العديد من الجولات التي قام بها أصدقاؤه وأقرباؤه في مناطق وبلدات جبل لبنان بحثا عنها. أما آخر قطعة انضمت إلى متحف الفنان التشكيلي، فهي عبارة عن «ضرس فيل» قدمه له مغترب من جنوب لبنان، وهي تزن نحو اثنين من الكيلوغرامات، يحتفظ بها داخل منزله القائم فوق الكهف نظرا لندرتها.

يذكر أن أبو ذياب رسام أيضا، وقد قام منذ سنوات قليلة بتأسيس «جمعية كهف الفنون» مع مجموعة من الأصدقاء، بهدف إنشاء خلايا سكنية بيئية تراثية متعددة، وإقامة دورات فنية ورياضية لتعليم الرسم والنحت والموزاييك.