«هافروود» .. مدينة سينمائية فرنسية على غرار «هوليوود»

مبنى البلدية يتحول إلى مستشفى للمجانين مقابل 400 يورو لدقيقة التصوير الواحدة

TT

بعد أن استحقت مومباي لقب «بوليوود» بفضل ما يصور فيها من أفلام هندية بالمئات، والقاهرة لقب «هوليوود الشرق»، ها هو ميناء «الهافر» على الساحل الشمالي لفرنسا يتحول إلى مدينة سينمائية تحمل اسم «هافروود» بعد أن اختاره مخرجون كثيرون من داخل البلاد وخارجها لتصوير أفلامهم فيه.

وعشاق السينما الذين يتوافدون بالآلاف على الشاطئ الجنوبي، في مثل هذا الموسم من كل عام، لحضور مهرجان «كان»، يدركون أن قلب السينما الفرنسية النابض إنما يقع في أقصى الشمال، حيث المدينة البحرية ذات الطراز المعماري العتيق والأزقة الحجرية تبدو وكأنها ديكورات طبيعية جاهزة لاحتضان السيناريوهات وتحويلها إلى أفلام. فقد شهد الميناء الذي تنطلق منه بواخر عملاقة تصوير الكثير من مشاهد الوداع ورفرفت فيه المناديل التي تلوح للمسافرين، وفي طرقات «الهافر»، لا سيما في شارع باريس، جرت الكثير من المطاردات وتلقت امرأة شابة عدة طعنات قاتلة. وكان ذلك في فيلم «38 شاهدا» للمخرج لوكا بيلفو. وفي الشارع نفسه خطفت فيونا غوردن، بطلة فيلم «جنية البحر» للمخرج دومينيك آبيل، حذاء رياضيا من دكان صغير وهربت به. وفي شارع باريس، أيضا، تهادت سيارة سوداء من طراز «لاغونا» في إعلان لشركة «رينو» للسيارات تم تصويره هناك.

إن شارع باريس هو واحد من أربعة مواقع محببة للتصوير في المدينة، إلى جانب الميناء وكنيسة سان جوزيف والحي العمالي العتيق. وبفضل الأفلام التي جرى تصويرها وما زال في هذه الديكورات الطبيعية جاءت تسمية «هافروود» أو «بوليهافر»، في مراوحة بين أغزر مدينتين للإنتاج السينمائي في العالم، هوليوود ومومباي. وحسب إحصائيات مركز الصورة في منطقة أعلى النورماندي فقد بلغ عدد أيام التصوير في الهافر 110 أيام خلال العام الماضي.

اشتهرت الهافر، عبر الزمن، بأنها منجم للأيدي العاملة في فرنسا منذ أن وفد إليها مئات العمال البولونيين للعمل في مناجم النحاس في عشرينات القرن الماضي. كما خلدها الرسامون الانطباعيون، أمثال مونيه وغوربيه وبودان، في لوحاتهم، وصوروا سماءها المكفهرة وأشرعة مراكبها والأمواج المتلاطمة في بحر الشمال. ومع قيام الحرب العالمية الثانية صارت المدينة واحدة من المدن «الشهيدة» بعد أن احتلها الألمان ودمرها قصف الحلفاء لهم عام 1944. وبعد أن صمتت المدافع أعاد المعماري أوغست بيريه، الملقب بـ«ساحر الحجارة» تشييد المباني المتداعية. وبفضل طرازها التاريخي الخاص أدرجتها منظمة اليونيسكو في لائحة التراث الإنساني الذي لا يجوز العبث به. أما المخرج الذي يحب استخدام هذا الديكور الخلاب فإن عليه أن يدفع 400 يورو عن كل دقيقة تصوير، وهو ما يسمى بـ«حقوق الصورة». ونظرا لأن المهندس بيريه لم يخلف فالا فقد تقرر أن تذهب هذه العائدات إلى الاتحاد الفرنسي لحماية الطفولة.

ورغم الضجة القائمة، حاليا، في المدينة بسبب مد سكك للتروماي الجديد، فإن كل حي من أحيائها يبدو وكأنه مصمم لأداء دور معين في فيلم ما. أما الزائر أو السائح فمن المعتاد أن يصادف ممثلين ومخرجين في هذا المقهى أو ذاك المطعم. وعند مشاهدة الممثل العربي الأصل عباس زحماني يعبر بخطوات عسكرية، مع زميله صامويل لوبيان، ممشى السابلة وسط المدينة، فإن ذلك لم يكن مرورا عابرا، بل مشهد من فيلم «ديسكو» للمخرج فابيان أونتونيانت. ولضرورات التصوير تم تغيير أسماء بعض الشوارع كما دهنت البيوت البيضاء بطلاء زهري. وبفضل نجاح الفيلم أصدر مكتب السياحة المحلي كتيبا يقترح على السياح خمس جولات مختلفة لزيارة المدينة و«اكتشاف الهافر على طريقة ديسكو». ولم ينج المخرج الفنلندي آكي كوريسماكي من سحر هذا الميناء الفرنسي فصور فيه فيلمه الذي اختار له اسم «الهافر» تيمنا بالمدينة الساحلية الشهيرة. إن المبالغ التي يدفعها المنتجون قابلة لابتداع المعجزات. وهكذا تحول مبنى البلدية إلى مستشفى للمجانين لضرورات تصوير فيلم «جنية البحر». ولم يعترض العمدة اليميني بل استبشر بالفكرة وقدم كل التسهيلات لفريق العمل. أما مساعدة العمدة فإنها تقول «نحن نسهل ولا نعرقل». وعلى سبيل المثال فقد جاءت البلدية بمعلمين متقاعدين اثنين لمادة الرياضيات وقواعد اللغة الفرنسية لكي يعطيا دروسا خصوصية للفتى الذي قام ببطولة فيلم «الهافر» وانقطع عن مدرسته طوال فترة التصوير التي استغرقت شهرا ونصف الشهر. ولا تخفي المتحدثة أن فريقها كان يذهب للتفاوض مع المخرجين ويعرض عليهم كافة التسهيلات لاجتذابهم للتصوير في هذه المدينة التي تأثرت مثل غيرها بالأزمة الاقتصادية.

لا تعد ولا تحصى الأفلام الطويلة والقصيرة والدعائية والمسلسلات التلفزيونية التي صورت هنا. والأمر ليس طارئا، بل يعود إلى أوائل القرن الماضي. ففي عام 1929 صور المخرج لوي بونويل المشهدين الأخيرين من فيلمه «كلب أندلسي» على رمال شاطئ الهافر. وفي 1934 صور كل من جان فيغو فيلمه «أتلانتا» وساشا غيتري فيلمه «لآلئ التاج» في المدينة. وفيها أيضا تم تصوير مشاهد «الإجازة الكبرى» لجان جيرو عام 1937. وفي السنة التالية صور فيها المخرج الكبير جان رينو فيلم «الحيوان البشري». وبعد بسنة قصدها مارسيل كارنيه لتصوير «رصيف الضباب» مع الممثلين القديرين جان غابان وميشال مورغان، وهو الفيلم الذي قال فيه البطل للبطلة تلك الجملة التي ذهبت مثلا في تاريخ السينما الفرنسية: «إن لك عينين جميلتين.. هل تعرفين ذلك؟».

بهذه الوتيرة استمر العمل السينمائي جاريا في الهافر حتى العام الماضي حيث صورت المخرجة ربيكا زلوتوفسكي فيلمها «بيل إيبين» والفنلندي كوريسماكي الفيلم الذي أشرنا إليه سابقا. أما في العام الحالي فقد صور لوكا بيلفو فيلمه البوليسي «38 شاهدا» عن جريمة يرفض أي من شهودها الكثر أن يبوح للمحققين بما رأى.

لا تنسى النجمة صوفي مارسو أن سيارة صغيرة وردية اللون من نوع «سمارت» دهست قدمها، بالخطأ، أثناء تصوير فيلم «المختفون في دوفيل» في الهافر واستدعى الأمر طلب النجدة والإسعاف. إن هذه الحوادث وأمثالها يمكن أن يملأ كتابا لمن يهمه تتبع أخبار النجوم ومفارقات مواقع التصوير في الميناء الذي تحول إلى نقطة لتجمع المهاجرين الأفارقة والأفغان والأكراد الراغبين بعبور البحر، خلسة، إلى الساحل البريطاني والتمتع بامتيازات اللجوء هناك.