مسرح بريغنز العائم بالنمسا.. الدراما والأوبرا وسط الطبيعة

يستوعب 7 آلاف مقعد تم تثبيتها في مواجهة شاطئ البحيرة

أوبرا «أندريه شيينيه» للمؤلف الإيطالي أمبرتو جيورادانو
TT

خطط وبرامج موضع تنفيذ، حركة دؤوبة، تعديلات وترميمات وإنشاءات تعيشها المدن النمساوية التي لم ينقشع عنها تماما برد الشتاء بعد إلا أنها تمضي مسرعة تنفض عنها بقايا ثلوجه وكسوته البيضاء تلك لتلبس حلة ربيعية ملونة استعدادا لاستقبال فصل الصيف.

وللصيف في النمسا رونق خاص وجمال طبيعي يسحر الأبصار لما تتمتع به من طقس مشمس وطبيعة خلابة خضراء زاهية منبسطة ومرتفعة، تشجع على النزهة وتدفع لابتكار برامج سياحية وثقافية تعتبر مصدرا من مصادر الدخل الأساسية لخزينة الدولة، كما تكسب البلاد الكثير من الإبداع والتفرد والتنوع.

وإن كانت فازت فيينا العاصمة بقصب السبق في الشهرة عالميا خاصة لما لمدينة سالزبورغ مسقط رأس موتزارت أشهر الموسيقيين النمساويين والعالميين قاطبة من مكانة إلا أن مدنا أخرى لا تقل عنهما حسنا وقد تفوقهما بهاء وجمالا رغم قلة حظها من حيث الشهرة والانتشار عالميا.

من تلك المدن التي لم تنل حظها كاملا من حيث الانتشار العالمي مدينة بريغنز عاصمة إقليم فورالبرغ أقصى غرب النمسا وهي مدينة وديعة ذات جمال طبيعي خلاب اكتسبته من موقعها الجغرافي كمفترق طرق ما بين مجرى نهر الراين وأودية جبال الألب الألمانية على سفح جبل فاندر مواجهة لشاطئ بحيرة كونستانس أو بودن سي، والتي تعتبر ثالث أكبر بحيرة في منطقة وسط أوروبا.

ويكفي مدينة بريغنز فخرا كونها تنظم صيفيا واحدا من أروع المهرجانات. مهرجان يحول المدينة بأثرها إلى قاعات مسرحية ضخمة أكبرها عائم مفتوح وأخريات عريقة فخمة، بالإضافة لمسارح بسيطة صغيرة تنتشر على أرصفة ودروب جانبية للهواة وصغار المبدعين.

المسرح العائم ببريغنز الذي يعتبر مسرحا مميزا ليس في بريغنز فحسب أو أوروبا فقط بل عالميا لكونه مسرحا شيدت خشبته فوق المياه فطفا عائما مما جعله مزارا معماريا وسياحيا حتى وهو خال من أي عروض.

وكثيرة هي المسرحيات والعروض التي تم تقديمها فوق خشبة مسرح بحيرة كونستانس العائم مما أكسبه سمعة كونه أرضية مخصصة لتقديم عروض أوبرالية وباليه وموسيقية راقصة يتم تقديمها وفق رؤى جديدة وديكور خيالي ضخم ومميز على خلفية مائية.

قدم المسرح العائم ببريغنز على سبيل المثال أوبرا «عايدة» لفيردي في عامي 2009 و2010 وأوبرا «توسكا» لبوشيني في عام 2008 و2007 وأوبرا «لا بوهيمي» لبوشيني 2002 في عامي و2001 وأوبرا «المزمار السحري» لموتزارت وغيرها وقد حظي كل عرض بديكور كان مثار الإعجاب والتعليقات. وجدير بنا أن نشير هنا إلى أن برنامج المهرجان يسعى للتنوع ولذلك تقدم دار أوبرا بريغنز سنويا عروضا مسرحية وغنائية حديثة وجديدة غير معروفة، ويتم كل ذلك وفق اتفاق محدد يسعى لإتاحة الفرص للجميع ولإرضاء كافة الأذواق والرغبات.

مما يضيف لتميز هذا المسرح العائم بجانب خشبته، كبر مساحته إذ يستوعب 7 آلاف مقعد تم تثبيتها فوق بقعة الأرض اليابسة مواجهة لشاطئ البحيرة على شكل نصف دائرة، فتبدو وكأنها على وشك أن تحتضن تلك الخشبة فيما هي مطلة على الضفتين الألمانية والأخرى السويسرية حيث تتقاسمان البحيرة مع النمسا.

إلى ذلك، يشتهر المسرح بكونه مفتوحا غير مسقوف ينعم بهواء طلق، وعلى عكس نهج معظم المسارح النمساوية فإن جمهوره لا يتطلب منه التقيد بأزياء سهرة أو بملابس رسمية.

وتعود بدايات مهرجان بريغنز الصيفي إلى عام 1946 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كفكرة بسيطة واتت مجموعة من مثقفي وفناني المدينة ممن اكتووا بنيران الحرب التي دمرت النمسا لا سيما معنويا فسعوا لخلق روح جديدة في مدينتهم وبلادهم عموما لعلها تعيد للسكان سابق بهجتهم، ففكروا في عروض مسرحية رغم أن بريغنز على وجه الخصوص لم يكن بها مسرح مستعيضين عن ذلك ولصغر حجم ميزانيتهم يومها بموقع في وسط ساحل البحيرة لا يبعد إلا بضعة أمتار عن قلبها ومركزها بدا لهم كشطرين وضعوا في أحدهما الفرقة الموسيقية وفي الآخر وقف الممثلون مقدمين أجمل عرض لأوبرا باستيني وباستيني لموتزارت والذين قدموه كعمل نمساوي بحت صاحبته بالعزف أوركسترا فيينا السيمفونية.

نجاح العرض الذي تواصل لمدة 10 أيام كان هو البذرة الأولى لمهرجان صيفي أصبح يقام سنويا يوليو (تموز) وأغسطس (آب) كما لم يعد مقتصرا على أعمال نمساوية.

في عام 1985 شكل الديكور الذي صمم لأوبرا «المزمار السحري» نقطة البداية لنصب الخشبة العائمة ومنها تطور الأمر بإدخال تعديلات وديكورات ضخمة ومكلفة مما استدعى الثبات على عرض لكل موسمين على التوالي بدل التغيير والتجديد كل عام، خاصة أن الديكورات أصبحت تتطلب ميزانيات كبيرة وتصميمات فنية وتقنية عالية فاتفقوا على عدم إزالتها بل الحفاظ عليها لمهرجانين، خاصة أن جمالها ودقة صنعتها تظل بمثابة قطب صامت يجذب الزوار والسياح في الفترة ما بين المهرجانين حتى من دون عروض حية وممثلين وجمهور.

ووفقا لهذا النظام وذاك الاتفاق لا تزال خشبة المسرح حاليا تحمل فوقها ديكورا فخما لأوبرا مهرجان العام الماضي والتي سيتكرر عرضها هذا الصيف بدءا من 19 يوليو حتى 18 أغسطس القادمين.

يمثل هذا الديكور الأرضية لأوبرا «أندريه شيينيه» للمؤلف الإيطالي أمبرتو جيورادانو وتحكي أحداث دراما معبقة بتراجيديا تاريخية لمقاطع أحداث من الثورة الفرنسية. تم تصميم الديكور مستمدا من لوحة فنية معروفة بريشة جاك لويس ديفيد بعنوان: «موت مارات»، تخيل فيها الرسام موت الصحافي الفرنسي جون بول مارات طعنا داخل حمامه بيد خصم سياسي عام 1793.

وللمسرحية تم تجسيد رأس مارات مع جزء من صدره فوق خشبة المسرح في مجسد إنساني ضخم (24 مترا) وكأن البحيرة هي حوض الحمام الذي قتل داخله فيما نصبت على الجزء الآخر من الخشبة مرآة ضخمة لتكملة ديكور غرفة استحمام. جاءت أوبرا «أندريه شينييه»، كما وصفها النقاد نهاية الموسم الماضي كملحمة فاقت في روعتها الأعمال الموسيقية إنتاج هوليوود ورغم أن مهندس الديكور والمخرج ومهندسو الصوت والإضاءة وبقية الفريق حينما وضعوا لمساتهم الأخيرة كان في مخيلتهم، دون شك، جمهور عريض يستمتع بصنعتهم مصحوبة بمكونات الأوبرا الأخرى من أحداث درامية وتراجيدية وموسيقى تصويرية ومارشات للثورة الفرنسية وملابس الممثلات الضخمة وباروكاتهن ومكياجهن، رغم غياب كل ذلك، فإن مشهد المسرح فارغا إلا من الرأس الضخم والمرأة والصحيفة ما زال يبعث الدهشة والإعجاب.