«روميو وجولييت في بغداد» يطلق مهرجان شكسبير العالمي

المسرحية العراقية تقف ضد الاقتتال الطائفي وتحصد إعجاب الجمهور الغربي

سروة رسول وأحمد مونيكا في رقصة شعبية عراقية بمسرحية «روميو وجولييت في بغداد»
TT

من تفاجأ بمن في عرض مسرحية «روميو وجولييت في بغداد» التي تعرض على مسرح «سوان» الشكسبيري بمدينة ستراتفورد البريطانية.. الجمهور الغربي والعربي (القليل) الذي لا يزال يواظب على حضور العروض باهتمام وإعجاب ودهشة، أم فرقة مسرح العراق التي تقدم العرض؟

المفاجأة مشتركة، من قبل الجمهور الذي يشاهد وللمرة الأولى واحدة من أشهر المسرحيات التراجيدية للشاعر الإنجليزي ويليام شكسبير تقدم بتحليل ومن تمثيل فريق عراقي وبلهجة شعبية وأزياء وموسيقى وسينوغرافيا عراقية، وكذلك من قبل فريق العرض الذي يجسد شخوص هذا العمل الكبير في المدينة التي ولد وعاش ومات ودفن فيها شكسبير. «هذه مغامرة.. مغامرة كبيرة كنا قد حسبنا نتائجها، وكنا واثقين من نجاحنا لأننا نقدم مسرحا عراقيا حقيقيا من خلال روميو وجولييت، لو كنا قدمناها بقراءة شكسبيرية خالصة ما كانت شدت اهتمام الجمهور الذي يشاهد على مدار العام هنا مسرحيات هذا الشاعر الكبير بقراءات مختلفة، لكنها في الغالب لا تبتعد كثيرا عن القراءة الأصلية للمسرحية»، يقول معد ومخرج المسرحية الفنان العراقي مناضل داود.

المفاجآت التي رافقت هذا العرض كثيرة، في مقدمتها أن مهرجان شكسبير العالمي الذي يقام هذا العام من قبل فرقة شكسبير الملكية، وموقعها في مدينة ستراتفورد، بمناسبة مرور خمسة قرون على ميلاد الشاعر ويليام شكسبير، استضاف فرقة مسرحية عربية، عراقية. الأهم من هذا أن افتتاح برامج المهرجان استهل بعرض «روميو وجولييت في بغداد»، والتي ستستمر لأكثر من 11 ليلة، وليس بعرض مسرحية «الليلة الثانية عشرة» لفرقة شكسبير ذاتها وباللغة الإنجليزية، وهذا ما حمل الفرقة العراقية مسؤولية أكبر.

افتتح مهرجان شكسبير العالمي يوم 25 من الشهر الماضي بمسيرة شاركت فيها كل الفرق المسرحية القادمة من أنحاء مختلفة من العالم، بينما احتشد أهالي المدينة على جانبي الطريق وهم يرتدون أزياء شخوص مسرحيات شكسبير، ومضت المسيرة التي تقدمتها فرقة «مسرح العراق» حتى كنيسة «هولي ترنتي» حيث قبر شكسبير وأفراد عائلته، ليتم وضع الزهور عليه، ورفع العلم العراقي باعتبار أن العراق مشارك في المهرجان، وليعلن مايكل بويد، المدير المسؤول لفرقة شكسبير الملكية، عن افتتاح أعمال المهرجان بعرض «روميو وجولييت في بغداد»، معبرا عن سروره بأن «تشارك فرقة عراقية بهذا المهرجان العالمي لمسرح شكسبير والذي تشارك فيه فرق أخرى من جميع أنحاء العالم»، مشيرا إلى أنه «مثلما سيكون كل العالم هذا العام في أولمبياد لندن، فإنه هنا أيضا في هذا المهرجان المسرحي المهم».

لكن كيف وصلت هذه الفرقة العراقية إلى مثل هذا المهرجان العالمي وبعرض يستلهم فكرته من إحدى تراجيديات شكسبير وباللهجة العراقية؟ يوضح داود، كاتب النص ومخرجه وهو أيضا مؤسس ومدير الفرقة، قائلا لـ«الشرق الأوسط» التي التقته بعد عرض اليوم الرابع في مسرح «سوان» الشكسبيري «بدء التخطيط للعمل منذ أكثر من عامين بعد أن بحثنا مع ديبرا شاو، مديرة عام مهرجان شكسبير العالمي للمسرح ونائبة رئيس فرقة شكسبير الملكية، أن نقدم عملا مسرحيا عراقيا لشكسبير، وبالفعل بدأت العمل على النص فوجدت أن تفسير مسرحية روميو وجولييت عراقيا هو الأقرب للحدث العراقي، مع أنني منحاز جدا لمسرحية ماكبث، وهكذا بدأت أكتب النص بروح عراقية»، منبها إلى أن «كل أعمالي التي أنجزتها منذ أن كنت أدرس المسرح في معهد الفنون الجميلة ببغداد مرورا بدراستي في موسكو ومن ثم العمل في مسارح أوروبية تنتمي إلى المسرح العراقي، جعلتني أعتبر تقديم عمل في مثل هذا المهرجان فرصة كبيرة لأن أقدم عملا كبيرا للمسرح العراقي، كموضوع وكلغة، والأهم من هذا وذاك كإخراج وتمثيل وموسيقى وأزياء عراقية».

لم يبتعد داود عن روح النص الشكسبيري، علاقة بين عاشقين، جولييت (سروة رسول) وروميو (أحمد صلاح مونيكا)، ينحدران من عائلتين تفصل بينهما خلافات كبيرة تنبئ باستحالة زواج أو تقارب العاشقين، وذلك حتى يعالج كاتب النص الفكرة عراقيا وبصورة إنسانية تنتصر للحب وللتآخي ضد الاقتتال الطائفي المجاني الذي يعصف بالعراقيين منذ تسع سنوات بسبب صراع السياسيين على السلطة بينما يدفع الشعب الثمن، حتى إن أستاذ التاريخ (الفنان الكبير سامي عبد الحميد) يستهل العمل كراوية بقوله «سئمنا من رائحة القتل والدم.. إنني أشتاق لرائحة الأرض والنخيل والمحبة.. أحبوا بعضكم». جعل داوود روميو ينحدر من عائلة شيعية وحبيبته جولييت تنحدر من عائلة سنية، وبينما يجمع الحب بين الأبناء، الشعب، الناس، يتصارع الآباء الذين يمثلون السلطة، العشائرية أو المذهبية وبالتالي السياسية كما هو في بغداد، من دون الاهتمام بالدم الذي يدفعه الناس كثمن لبقاء السياسيين في مراكز السلطة، والسلطة مثلها الكاتب هنا بسفينة كان يقودها كابلت والد جولييت السني (حيدر منعثر) وآلت اليوم بعد الاحتلال الأميركي إلى والد روميو الشيعي مونتاغيو (ميمون الخالدي)، إذ لم ينفع تدخل الليدي مونتاغيو، والدة روميو (فوزية عارف) في أن يتسامح زوجها ويتصالح مع كابلت حيث تفصح عن مللهم من الحزن والدم والقتل والعداء، منبهة إلى أن ابنهما روميو هو من سيدفع ثمن هذا العداء.

الأحداث تتفاعل وتشتعل وسط مراقبة وتدخل من قبل أستاذ التاريخ الذي يتدخل لصالح الناس، العاشقين، الأبناء. وبينما يتقاتل الأبناء بدفع من الآباء وتدخل بارس (علاوي حسين)، الإرهابي الذي يمثل تنظيم القاعدة والذي لا يكتفي بالدفع نحو الاقتتال بل لسلب حياة الآخرين من خلال إصراره على الزواج من جولييت مستغلا تأثيره الروحي على والدها، هنا نسمع الكثير من أصوات الانفجارات، والاقتتال بواسطة البنادق والمسدسات الحديثة من دون الرضوخ لسلطة القانون التي يمثلها الجنرال العراقي (حسين سلمان) الذي يجسد أيضا شخصية القس، وسط التدخل الأميركي ممثلا بالجنرال (سعد أمير)، ويصر روميو وجولييت على الزواج ووضع عائلتيهما المتقاتلتين أمام الأمر الواقع وبمباركة من أستاذ التاريخ الذي يحاول تهدئة الأمور بعد أن يقتل روميو تايبالت شقيق جولييت (حسنين سلام) ثأرا لصديقه مركيوتو (فكرت سالم)، فيقترح على روميو اللجوء لدى صديقه القس في كنسية سيدة النجاة، ومن هناك يتصل بواسطة الجوال بمربية جولييت، نوريس (زهرة بدن)، ليطلب منها أن تلتحق زوجته به في الكنيسة، وهناك يلقيان مصيرهما، إذ يموتان خلال التفجير الإرهابي الذي عصف بالكنيسة. هنا نلاحظ أن كاتب النص العراقي احتفظ بأسماء الشخوص الحقيقيين للمسرحية الأصلية على الرغم من أدائهم أدوارا عراقية بحتة، مازجا في أزيائهم التي صممها فاضل قزاز بين الزي الشعبي العراقي، الدشداشة والعقال واليشماغ، والكلاسيكي ليعطي للشخوص هويتها الرمزية.

يقول الأستاذ المسرحي الكبير سامي عبد الحميد «أردنا من خلال (روميو وجولييت في بغداد) أن نوصل رسالتنا الإبداعية الداعية للمحبة والسلام والتي تبغض الاقتتال الطائفي وما يحدث اليوم في بلدي العراق. أنا عشت طوال حياتي ببغداد الآمنة التي يحب أهلها بعضهم بعضا، وما يحدث اليوم هو شاذ وغير طبيعي، وأنا على يقين من أن هذه الرسالة وصلت إلى العراقيين ويجب أن تصل إلى السياسيين ليوقفوا نزيف الدم، والجمهور الإنجليزي تعاطف وتضامن مع رسالتنا هذه من خلال إصراره على الحضور والإعجاب به».

ومثلما لاقى العرض ببغداد إعجابا كبيرا من الجمهور العراقي، فإن الجمهور الغربي الذي ازدحمت به مدينة ستراتفورد لحضور عروض المهرجان العالمي، عبر عن تفهمه وتفاعله وإعجابه بالعمل الذي كان حواره يترجم فوق شاشتين على جانبي المسرح، فعرض اليوم الرابع الذي حضرته «الشرق الأوسط» كان يضم الكثير من الشباب إلى جانب الكبار، حيث أمطروا فريق العمل بالتصفيق لمرات متتالية، بل انتظروهم خارج صالة العرض للحصول على تواقيعهم والتقاط الصور معهم، والأكثر من هذا أن هذا الجمهور كان يصفق للممثلين في الشارع وهم في طريقهم إلى الفندق. يقول أحد المشاهدين «لم أكن أركز على الترجمة للحوار، لكنني فهمت العمل وأعجبت به».

ومثلما أبدع المخرج داود في رسم لوحاته وحركة الممثلين فوق خشبة المسرح وفي تفسير النص، خاصة وهو كاتبه، فقد شاهدنا لوحات تتكامل إيقاعا وحركة، فقد أبدع جميع الممثلين فوق خشبة المسرح أداء وتجسيدا لشخوص المسرحية مزاوجين، وحسب قراءة إخراجية مركبة، ما بين الأداء الشكسبيري والشعبي الذي ينتمي روحا إلى المسرح العراقي، فشاهدنا ممثلين كبارا أمثال سامي عبد الحميد وفوزية وميمون الخالدي وحيدر منعثر، متألقين في أدائهم إخلاصا لموهبتهم وتاريخهم وانتصارا للمسرح العراقي الذي يمثلونه، وجاء الأداء الكوميدي المتميز للفنانة زهرة بدن ليشكل واحدة من مفاجآت العرض، إذ نقلت المتلقي من مشاهد الشد العاطفي إلى الكوميديا، وهذا ما يتناسب مع الأسلوب الشكسبيري التقليدي، وقد جسدت بدن دورا جديدا على مسيرتها الفنية، دورا سيبقى راسخا في ذاكرة المتلقين.

وإلى جانب هؤلاء النجوم كان هناك شباب من الممثلين ربما بعضهم يقف للمرة الأولى على المسرح كمحترف، أمثال أحمد صلاح مونيكا الذي عبر عن طاقته الإبداعية والجسدية فبدا مثل راقص ساحر على المسرح مع الفنانة سروة رسول التي حصدت إعجاب الجمهور بأدائها وحضورها، وهي تنبئ بموهبة مبشرة للمسرح العراقي، وكذلك أمير حسين، أصغر المشاركين في العمل عمرا، حيث أدى دور بينفوليو مازجا بين التراجيديا والكوميديا، ويمكن القول إن الجميع في هذا العرض هم نجوم.

«روميو وجولييت في بغداد» عمل عراقي بحت، ينتمي إلى روح العراق الثقافية والشعبية، فقد ضمنه معد ومخرج النص حكايات من الفلكلور القصصي الشفاهي، مثل قصة «الخنفساء والجرذ»، وهي «قصص حفظتها عن أمي التي كانت ترويها لي في طفولتي» يقول داود الذي يقود هذه القصة إلى حاجة الناس للطعام ممثلا بدبس التمر، وهو إنتاج عراقي بحت، ماضيا إلى السندباد وشهريار وشهرزاد وعلي بابا في حبكة جاءت كنسيج متماسك مع أحداث العمل. كما اعتنى المخرج بالموروث الشعبي الموسيقي والغنائي العراقي فقدم وضمن النسيج المتكامل للمسرحية لوحات من أغاني ورقصات البصرة مستفيدا من طاقة مونيكا الجسدية في هذا الجانب.

الموسيقى التي وضعها علي خصاف، عازف الكلارنيت في المسرحية، أدت دورا مسرحيا ولم تكن مجرد خلفية أو مصاحبة للعرض، بل كانت تؤدي أدوارها مثلما بقية شخوص العرض، وقد تعمد المخرج داود أن يكون العازفون، خصاف وادور كاظم (عازف الجلو) ووسام لطيف (عازف الطبلة) حاضرين فوق خشبة المسرح، وما كان للعرض أن يتكامل جماليا من دون الجهد الفني للسينوغرافيا التي صممها فؤاد ذنون، والإضاءة، من تصميم الفنان جبار جودي، والماكياج للفنان طلال محمد، والتي أسهمت بدور كبير في إنجاح العمل.