الفينيقي الأخير في لبنان: صناعة المراكب والسفن آخذة في الاندثار

بعد إنجازه حلمه وتركه بصماته على شواطئ المتوسط

بربور وهو يصنع أحد مراكب الصيد
TT

لكل مهنة أسرارها وتاريخها، وتعد صناعة اليخوت والمراكب من أصعب المهن، لكن بالنسبة للبناني إيليا بربور صاحب الثمانين عاما الذي أمضى نحو ثلثيها رفيقا للبحر، هي تجري كالدم في عروقه، حتى بات يشعر عند بيعه أيا من مراكبه وكأن أحدا من أولاده قد انتقل من مكان إلى آخر.

بربور الذي ذاع صيته على طول شاطئ مدينة صور (جنوب لبنان) يحمل بامتياز لقب الفينيقي الأخير، خاصة بعد إنجازه السفينة الفينيقية «حيرام» وهي إبداع يصفه بـ«الحلم».

«بدأت بممارسة المهنة في عام 1958، صنعت بمساعدة أولادي هذه السفينة التي تحمل في مقدمتها رأس حصان شامخ، وفي الخلف ذنب حورية البحر، طولها 15 مترا وعرضها 7 أمتار، وقد أتت مطابقة للشكل الفينيقي المنقوش على العملة اللبنانية القديمة (5 قروش)»، هكذا قال بربور لـ«الشرق الأوسط». ويبدي من غزا الشيب رأسه افتخاره بإحراز وزارة الاقتصاد اللبناني المركز الثالث في مهرجان البرتغال للسياحة الدولية، بفضل هذه السفينة، حيث لا ينسى كيف دفعها بمفرده إلى المكان المخصص للعرض أمام مئات السياح.

و«حيرام» المدهشة لكل من يراها تمتاز بتصميمها الفريد وشكلها الفولكلوري ذات الطابع الحديث، لها من كل جانب 6 فوهات للتجديف، وتتسع لخمسين راكبا، يعمل على متنها 15 بحارا، وهي مزودة بشراع على الطريقة الفينيقية، وقادرة على الإبحار لمسافات بعيدة.

أما هيكلها، يضيف بربور، فمصنوع من خشب الأريكو الأفريقي، بينما عاموده الفقري (ضلعها) فمن خشب الكينا «الصخري»، ما يزيدها صلابة وتماسكا، كل ذلك بهدف مطابقة مواصفاتها مع مواصفات المراكب الفينيقية من حيث القياسات والجودة.

على مدى عام كامل استمر بربور في نحت جسم السفينة «حيرام»، واضعا اللمسات الأخيرة لإنجازه في سبتمبر (أيلول) من عام 2003، محاولا من خلالها المحافظة على تراث مدينته والحضارة الفينيقية معا.

مهنة صناعة المراكب والسفن لا تزال تسرد حكاية من تاريخ لبنان، وتجسد لزائري «محترف بربور» العشق بين مدينة صور ومراكبها، عشق يعود إلى أكثر من 3 آلاف و500 عام، في زمن كان يجوب فيه الفينيقيون البحر المتوسط ببضائعهم المحملة على مراكب من صنع أيديهم.

على مدى 50 عاما تحول «محترف بربور» الضيق المكدس بالأخشاب المحلية، والواقع عند مدخل حارة المسيحيين المواجهة لميناء الصيادين، قبلة لعاشقي المراكب والبحارة اللبنانيين والسياح الأجانب، وهو شيد بين أنحائه ما يزيد عن 100 عمل بين مركب صيد وسفينة سياحية بقياسات مختلفة صنعها بمعاونة أولاده.

واللافت أن بربور بات النجار البحري الوحيد في مدينة صور التاريخية بعد وفاة منافسه منذ 6 سنوات، ولا يزال البحارة في لبنان يشهدون بمتانة ما تصنع يديه بدقة ومهارة عاليتين، نظرا لقدرة جميع سفنه ومراكبه على مقارعة أمواج البحار والصمود سنوات طويلة، بفضل خشبها الصلب المستورد حينا والمحلي حينا آخر.

ساعدي «العم» إيليا لا تكلان في الحفاظ على مهنة يعتاش منها آلاف البحارة وصيادو الأسماك على امتداد الساحل اللبناني، وعن جديده يكشف لـ«الشرق الأوسط»: «أصبحت على وشك إنجاز سفينة فريدة أخرى أطلقت عليها اسم البطة swan، فعلى مثلها غادرت الملكة أليسار ملكة صور إلى قرطاج، ووضعت فيها كنوز صور قبل آلاف السنين، وذلك إبان حصار الإسكندر للمدينة».

ويبدي بربور اعتزازه ببنائه أول «لنش» سياحي عام 1970 بطول 25 مترا وعرض 5.5 متر، وسماه «إليسا» وهو يرسو حاليا في ميناء «الإسكال» في مدينة جونية (شمال بيروت).

وردا على سؤال، لا يجد من يحمل الجنسية القبرصية حرجا بالقول إنه لا يفقه القراءة والكتابة، معتمدا بشكل رئيسي على ذاكرته لحفظ القياسات، وعلى الآلات البسيطة كالمطرقة اليدوية والمناشير الكهربائية في تنفيذها.

معظم مراكب بحارة صور هي من صنع يدي بربور الذي يشير إلى أن صناعة المركب العادي تستغرق ما بين الشهرين إلى 3 أشهر، وهي تحتاج إلى نحو 23 كيلوغراما من المسامير، ليقوم بعدها بطليه بمادة عازلة ومقاومة للشمس وملح البحر، فيما تحتاج المراكب الكبيرة إلى نحو طن من المسامير لإنجازها في فترة تقارب السنة.

شكل المركب أثناء رسوه على شاطئ صور لا يهم بربور بقدر ما يهمه العمل على تأمين سلامة وأمان راكبيه.

لا يزال بربور يتوجه كل صباح إلى «محترفه»، كاشفا عن هواجس تتعاظم لديه يوميا بسبب قيام البعض باستيراد الزوارق المخصصة للرحلات البحرية والمصنوعة من مادة «الفايبر غلاس» من إيطاليا، مؤكدا أنه غير نادم على مهنة أصبحت في طور الانقراض، مبديا استعداده لصناعة مراكب حديثة.

وعن أبهج الأمور عنده يقول: «تغمرني السعادة وأنا أرى مراكبي الشراعية الفينيقية منتشرة على طول الشاطئ الصوري (نسبة لصور)، فبعضها جال على مرافئ البحر الأبيض المتوسط ومنها قبرص والأردن، واستقر الآخر في إسبانيا واليونان».

وبالعودة إلى واقع المهنة يشكو جورج بربور، الذي تعلم المهنة من والده منذ نحو 10 سنوات، من تراجعها بنسبة 80%، عازيا أسباب ذلك إلى ارتفاع أسعار الأخشاب والأجور ومادة المازوت، وتراجع الطلب عند الصيادين والبحارة، بفعل تدني أحوالهم المعيشية.

وبالتالي أصبحت هذه المهنة التي ورثها والدي عن جدي تواجه خطر الاندثار اليوم، ما جعلنا نعتمد على الخشب المحلي كالكينا والسرو و«الزنزلخت» في «محترفنا»، ونحن نناشد الدولة الاهتمام بهذه المهنة، كونها تشكل جزءا من التراث والتاريخ الذي لطالما تباهى به أبناء المدينة، إشارة إلى أن هذه الصناعة غالبا ما يقبل عليها صيادو الأسماك والمؤسسات السياحية والأفراد.