يقال إن غيرهارد ريختر، هو أفضل الفنانين الأحياء في عصرنا الحالي. لكن هذا التوصيف الذي قد يصيب رأس صاحبه بالدوار لا يبدو أنه يخدع ريختر أو يدفعه إلى التفلسف. فالفنان الألماني الذي يحتفل بثمانينه وأثناء لقاء معه في بيروت، بمناسبة افتتاح معرض له يضم مجموعة كبيرة من لوحاته، آثر الردود القصيرة، التي تفضل إظهار الجهل بالأشياء على المعرفة بها.
لماذا يعرض في بيروت؟ «لأنني ببساطة أحب أن أعرض لوحاتي». يجيب ريختر. وما انطباعه عن بيروت؟ «أنا لا أعرفها لأتكلم عنها». وكيف قضى اليومين اللذين أمضاهما في العاصمة اللبنانية؟ يكتفي بالقول: «قضيتهما هنا»، دون أن يعطي إجابة شافية للموجودين عن طريقة عمله الابتكارية التي تجمع التصوير بالرسم، أو عن تقييمه لأعماله بعد أربعين سنة من التجارب، أو اسم رسامه المفضل. ومع اختيار ريختر التحدث بالألمانية دون سواها، وإصرار أصحاب الدعوة والحضور الكرام، على اعتماد الإنجليزية بدل العربية (وهي بطبيعة الحال لغة غالبية الحضور) دخل الحوار القصير المقتضب في حيص بيص. ولا بد أن يرفع واحدنا قبعته احتراما للحاضرين الألمان الذين فرضوا لغتهم في صالة اللقاء، وتحدثوا بها مع أن أحدا لا يفهمها، فيما بقي العرب خجلين من نطق حرف واحد بلغتهم الأم، وظلوا يرطنون بالإنجليزية لتترجم أسئلتهم إلى ريختر بالألمانية، ثم يجيبهم بلغته وتترجم الإجابات لهم بالإنجليزية.
اللقاء بريختر الذي تلهف الكثيرون له، لم يكن شافيا، وفضّل الرجل أن يترك للوحاته الحديث عن نفسها. فهذا الفنان الذي عرف بخلطه ومزجه بين التصوير والرسم، لا يكف عن التجريب حتى بعد أن شاخ وكبر، وهذه ميزته.
المعرض الذي يقام في «مركز بيروت للفن» ويستمر حتى 16 يونيو (حزيران) المقبل يضم أكبر عمل لصور فوتوغرافية مرسوم عليها، أنجزها ريختر. المجموعة المؤلفة من عشرات الصور الصغيرة التقطها ريختر في «تايت مودرن» في لندن أثناء تحضيره لمعرضه الاستعادي هناك العام الماضي. متعة تأمل هذه الصور تأتيك بسبب الألوان والرسومات التي مرغها الفنان عليها. فرغم أنه يستخدم الصورة ذاتها في بعض الأحيان، فإن اختلاف مرغ الألوان وتوزيعها والمساحات التي يتركها هي التي تجعل كل عمل من هذه الأعمال مختلفا عن الآخر. تمر عليها واحدة بعد الأخرى لتفهم مغزى هذا الغرام بالتلوين على الصور، وما يتركه من انطباعات على المتفرج.
لكن ريختر قد يفعل العكس تماما. إذ قد يرسم لوحة ثم يأخذ يصورها من مختلف الزوايا، لنظن أننا أمام صور للوحات مختلفة. هذا هو حال اللوحة الكبيرة التي تتصدر صالة العرض. إنها ليست لوحة بل جدارية مكونة من صور على شكل مربعات وضعت إلى جانب بعضها. هي صور عدة للوحة تجريدية واحدة، رسمها ريختر وصورها من أماكن مختلفة، ومن مسافات متباينة، مع إخضاعها لألوان مختلفة من الضوء، مما جعلنا نظن أن الصور ليست للعمل نفسه. هذا البعد الفلسفي عند ريختر يمكننا أن نفهمه من خلال تأمل بقية أعماله.
لوحة لخاله رودي وهو في الملابس العسكرية النازية. رسم ريختر هذه اللوحة عن صورة عام 1965 وأضفى عليها غباشا مقصودا. ليست هذه اللوحة الوحيدة التي غلفها الفنان بضباب ريشته، فهو عاشق لهذا النمط في الرسم، وأنجز رسما لذاته على هذا النحو ذاع صيته وانتشر. يقول ريختر: «أغبّش لوحاتي لأجعل الكل متساوين، كلنا مهمون بنفس الدرجة، وغير مهمين بالدرجة ذاتها».
بورتريه آخر لا يقل أهمية هو الذي رسمه لابنته «بتي» عام 1988، في نسخ متقن عن صورة فوتوغرافية التقطت عام 1977. بتي ذات الشعر الأشقر تنظر إلى الوراء ولا نرى إلا خلفية رأسها. هذه الصورة التي ترتدي فيها «جاكيت أبيض» عليه زهر أحمر، يحار الناظر إليها إن كانت رسما فعليا أم مجرد صورة. النسخ لا يعني مجرد التقليد بحسب ريختر. ففي رأيه أن «الصورة الفوتوغرافية تصبح أكثر واقعية حين تنسخ رسما في لوحة لأنها تصبح مشغولة باليد ومنتجة بطرق ملموسة».
واحدة من اللوحات المفاجئة، هي تلك التي لستارة لا نرى سوى ثنياتها المتتابعة. صورة أو لوحة ربما القصد منها التساؤل عن الفرق الجوهري بين هذه اللقطة اليومية والعمل التجريدي. أوليست انحناءات القماش في ستارة ما مشهدا تجريديا بامتياز؟
لم يكن ريختر بعيدا عن الصور الفوتوغرافية الإعلامية، ولا عن الإعلام بشكل عام. في مجموعته «قصص حرب» المعروضة في بيروت يضع نصوصا نشرت في الصحف عن المرحلة التي سبقت الحرب على العراق عام 2003، ويقرنها بلوحات تجريدية له. لعله لا يجد فارقا بين النصوص ذات الصبغة الحربية وتلك الأعمال التي خطتها ريشته دون أن يتجسد فيها الإنسان وجودا وكيانا.
الموت والمعاناة، كانا دائما موضوعا فنيا حاضرا، بالنسبة لهذا الألماني المولود عام 1923، الذي بدأ يعرض أعماله عام 1963، ووصل لأن يعرض في تايت مودرن في لندن، ومن ثم في شيكاغو. وأقيمت له معارض استعادية عدة، احتفاء بإنجازاته، وبعمق رؤاه الفنية. نال جوائز فنية كثيرة يصعب تعدادها، وله أعمال في متاحف ومعارض كبرى في العالم.
ويقام معرضه في بيروت، برعاية معهد غوته، وبالشراكة مع أخيم بوركهارت. والمعرض يستحق التأمل المتمعن، وقراءة ما وراء هذه الأعمال، حيث يبدو الخلط المزمن بين الرسم والتصوير، قادرا على ابتكار نوع آخر من الفنون غير تلك التي اعتدناها وألفناها، هذا إضافة إلى القدرة العالية لهذا الفنان على جعل رؤاه الفلسفية بسيطة ولذيذة ومرئية بالعين المجردة.