«سور مجرى العيون» في القاهرة القديمة.. يستعيد رونقه

القمامة والقاذورات أفقدته طابعه الأثري المميز

بحسب الأثريين، فإن السور سمي بـ«مجرى العيون» لكونه عبارة عن قناة ترتفع عن الأرض فوق بناء جداري، يعرف بالسور، فضلا عن تمتعه بفتحات تشبه العيون، ويعد امتدادا لأسوار الناصر صلاح الدين الأيوبي («الشرق الأوسط»)
TT

في قلب منطقة مصر القديمة، يقف «سور مجرى العيون» الأثري شامخا صامدا عبر عصور عديدة، يواجه الزمن بتحدياته والإنسان بتعدياته، منذ أن شيده السلطان الغوري قبل أكثر من 800 عام.

وكغيره من الآثار الإسلامية في القاهرة؛ فقد أولاه الثوار الشباب بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني) الكثير من العناية، وهو ما جعل السور في عهدتهم حتى لا تمتد إليه أيدي التخريب أو التشويه.

وما دفعهم لذلك أن هذا الأثر التاريخي قد تعرض للإهمال عقب الثورة لعدة شهور، حيث غطته القمامة والقاذورات، بعدما كان على موعد مع عمليات ترميمه مطلع عام 2000، حيث حظي وقتها بنحو 15 مليون دولار لصيانة أحجاره وعيونه التي تميزه واشتهر بها، ليودع بها سنوات سابقة من التحديات التي ظلت تطارد شموخه.

يقول الشاب وليد محسن، من سكان المنطقة: «حاولت تجميع مجموعة من الشباب عندما وجدت السور قد امتدت إليه أيدي التخريب، ولم ننتظر وقتا طويلا حتى تقوم الحكومة المصرية بصيانته، فقمنا بمبادرة من جانبنا لإعادة تنظيف السور والحفاظ على جمالياته».

وتلتقط هدى سامي، طرف الحديث وتؤكد أنها حرصت ضمن مجموعة من شباب المنطقة على تنظيف السور من جميع أشكال القمامة التي أحاطت به منذ أحداث ثورة 25 يناير، مضيفة: «لم ننتظر تحركا من جانب الجهات المسؤولة، التي تبدو متقاعسة عن أداء واجباتها، كما هو حالها تجاه أمور عديدة في البلاد».

السور، يعرف مجازا باسم «سور مجرى العيون»، رغم أنه يقطع العديد من الضواحي في منطقة مصر القديمة، إلى درجة أن طوله يصل إلى كيلومترين وقرابة 800 متر، حيث يمتد من منطقة فم الخليج على النيل مباشرة، وحتى قلعة صلاح الدين الأيوبي في قلب القاهرة.

وبحسب الأثريين، فإن السور سمي بـ«مجرى العيون» لكونه عبارة عن قناة ترتفع عن الأرض فوق بناء جداري، يعرف بالسور، فضلا عن تمتعه بفتحات تشبه العيون، ويعد امتدادا لأسوار الناصر صلاح الدين الأيوبي، التي يرجع تاريخها إلى عام 572-589 هجرية.

وقد ظل السور شاهدا قبل نصف قرن على وظيفته الأساسية، حيث كان يتم نقل مياه النيل عبر العيون التي ظل يشتهر بها، وكانت هذه المياه تنقل عبر السور إلى قلعة صلاح الدين بالقاهرة عن طريق أنابيب رفع، لتصل إلى قناة يتم جمع المياه فيها بواسطة ست سواق، حتى تصل إلى المكان المحدد لها، وهو القلعة.

أما الأنابيب التي كانت داخل السور، فقد استشهد الشقيري بها على إبداع المسلمين في كتابه «فتوح مصر وأخبارها»، وكتب عنها أبو القاسم المصري في القرن التاسع الميلادي يقول «كانت مصر ذات قناطر وجسور بتقدير وتدبير». كما تحدث ياقوت الحموي عنها في كتاب «معجم البلدان»، عندما تعرض إلى الحديث عن صهاريج القاهرة قائلا: «وكانت تملأ بالمياه عن طريق قناة ضخمة مغطاة تصب فيها الماء الذي يكفي أهلها حولا كاملا».

وظل السور يعاني من مشكلات عديدة تراكمت على مدى نصف قرن أو يزيد، أهمها ارتفاع منسوب المياه الجوفية أسفل السور، مما هدد الأساسات أسفله، وكاد يعرضه إلى التهديد المباشر، لولا عمليات الصيانة التي تعرض لها. غير أن معاودة المياه له من وقت لآخر، يمكن أن يعرضه في يوم ما إلى التهديد بالانهيار من الأساس.

ويوصف «سور مجرى العيون» بأنه أثر تاريخي إسلامي، ويعرف أحيانا باسم «قناطر المياه»، غير أنه لم يبق من هذه القناطر العتيقة التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي شيء، باستثناء بقايا قليلة في بداية مجرى العيون ناحية قلعة صلاح الدين، بعدما اندثر معظمها، والباقي منها لم يعد صالحا للقيام بوظيفته.

هذه الوظيفة اندثرت قبل منتصف القرن الماضي، ليفقد السور الوظيفة الثانية له، وهي أنابيب المياه، بعدما فقد وظيفته الأساسية، وهي كونه سورا لحماية العواصم الأساسية لمصر الأخيرة من أي اعتداءات خارجية، على نحو ما كان يعمل الصليبيون عند إغارتهم على القاهرة من وقت لآخر إبان الدولة الأيوبية.

ويرصد الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في مصر الدكتور مصطفى أمين، لـ«الشرق الأوسط» تفسيرا لوظيفة مد الأنابيب بالمياه، بأنها كانت تستهدف مد قلعة صلاح الدين بمياه النيل، لكون القلعة كانت مقرا للحكم في مصر منذ العصر الأيوبي، حتى انتقل المقر بعد ذلك إلى قصر عابدين.

ويقول إن تزويد القلعة بالمياه جاء لعدم كفاية مياه الآبار بالقلعة، وكان يتم ذلك عن طريق رفع مياه النيل بالسواقي إلى مجرى السور، ثم تأخذ هذه السواقي المياه من النيل لتدفعها عبر مجرى مائي فوق مجموعة ضخمة من قناطر حجرية مدببة، حتى يتم تخزينها في مجموعة كبيرة من الآبار لا تزال باقية إلى اليوم، غير أن وظيفتها أصبحت مختلفة حاليا. إلا أن الهدف الأساسي من هذا السور في بداية نشأته كان حماية العاصمة المصرية من أي اعتداءات خارجية يمكن أن تهددها. فكان يتسم بأبراجه الشاهقة، حيث يقع بداخله طابقان وسطح علوي مكشوف تحاط حافته بمجموعة من الشرفات، وتميز هذا السور بأنه ذو مداخل منكسرة تعلق عليها متاريس حديثة، عبارة عن قضبان حديدية قوية تنتهي من أسفلها بأسنان حادة كالحراب.

وتنزلق هذه الأسنان بثقلها الكبير رأسيا، بما يمكن من استخدامها عند الهجوم الخارجي، حيث كان يساعد الجنود في ذلك سقطات كانت في المساحة المحصورة بين امتداد فتحة باب والداخلة المعقودة داخل السور، إضافة إلى ذلك كانت هناك أبواب سرية تقع في السور، بهدف خروج الجنود لشن هجمات مضادة على الأعداء عند تعرض القلاع أو السور للحصار وهجوم الأعداء.

ويروي الدكتور مصطفى أنه عندما اتسعت قلعة صلاح الدين في العصر المملوكي وأقام فيها المماليك وكثر عددهم، فكر السلطان الناصر محمد بن قلاوون في مشروع لزيادة تدفق المياه من النيل إلى القلعة، فأمر عام 712 هجرية بإنشاء برج ضخم يضم أربع سواق في منطقة فم الخليج، على ضفاف نهر النيل، لتقوم برفع المياه إلى مجرى أو قناة تقع فوق مجموعة من العقود المرتفعة المحمولة على دعامات (أكتاف) ضخمة من الحجر، ومصممة بشكل منحدر لتتصل بعد ذلك بالقناطر التي أقامها صلاح الدين لتجري المياه في اتجاه القلعة، وهي التي عرفت بعد ذلك باسم «سور مجرى العيون».