موقعة الجمل المستمرة.. الاشتراك المصري في المسابقة الرسمية

يوميات «كان» السينمائي 2012

يسري نصر الله مع أبطال فيلمه «بعد الموقعة»، باسم سمرة ومنة شلبي وناهد السباعي (إ.ب.أ)
TT

فيلما المسابقة في اليوم الأول من دورة «كان» الحالية، هما «مملكة سطوع القمر» لويس أندرسون و«بعد الموقعة» ليسري نصر الله. الأول كوميديا (من نوع ما) أميركية تنثر قليلا من الحرارة في أوصال المشاهدين، وذلك في الدقائق القليلة الأولى فقط، والثاني دراما مصرية منتظرة تتمحور حول بعض أحداث الثورة.

سأعود إلى فيلم أندرسون يوم غد (بالإضافة إلى أفلام أخرى)، لكن فيلم «بعد الموقعة» الأهم بينهما، يفرض نفسه على أكثر من صعيد. فهو الاشتراك العربي الوحيد في المسابقة، وفيلم المخرج المعروف نصر الله الجديد، ويدور حول وضع لا تزال مصر تمر به ويستقطب اهتمامات في أوساط عديدة.

فيلم يسري نصر الله الجديد له علاقة، كما يكشف العنوان، بأحداث الثورة المصرية التي وقعت قبل أكثر من عام، وكان من نتائجها ما نعرفه اليوم من تغيير شخصية الحاكم والوثوب إلى منتصف الاحتمالات المتعارضة والوقوف أمام مستقبل يأمل الجميع له الخير، لكن ذلك - يؤكد الفيلم كما السياسيون - لن يكون سهلا. والموقعة هي «موقعة الجمل» كما باتت معروفة: يستخدم الفيلم في مطلعه تلك الموقعة كما شاهدناها على شاشات التلفزيون حين انبرى عدد من أتباع النظام، وبأمر من قياديي الحكم السابق، بالهجوم على المتظاهرين راكبين خيولا وجمالا. حينها بدا المشهد كما لو كان خارجا من فيلم صوّره مجهول في مطلع القرن الماضي.. سورياليا في معناه ومثيرا لضحك مكتوم في صميمه.

لم تكن اليد العليا للفرسان الأشاوس، إذ سقط منهم، كما أوضحت الأفلام الملتقطة بأجهزة الهاتف، واحد أو اثنان عندما استرد الحشد المصري نفسه واستعاد الفعل وأمسك ببعض الفرسان وأوقعهم أرضا ثم أوقعهم ضربا. الفيلم ينفصل من مشهد سقوط أحد الفرسان ليحوّل هذا الفارس (باسم سمرة) إلى أحد طرفي حكاية. الطرف الثاني هو تلك المرأة الشابة العاملة (منة شلبي) التي تعمل في منظومة اجتماعية محلية تحاول مساعدة البيئات المتضررة من واقع الأوضاع القائمة. حين تؤم ريم (شلبي) عملية توزيع طعام الخيول على العاملين في مركز سياحي يقع قرب الهرم، وتتعرف على محمود (سمرة) الذي يلفت نظرها من البداية خصوصا حينما يتم رفض طلبه بالحصول على مؤونة الفرس الذي يملكه. السبب هو أنه كان أحد الخيالة الذين هاجموا المتظاهرين قبل أيام. وهذا يقود إلى قبلة بين ريم ومحمود كانت تحتاج إلى تهيئة أفضل، لكن إذ وقعت فإن نتائجها وخيمة على فرقاء كثيرين. ومن ناحيتها، فإن ريم (التي تطالب بالطلاق من زوجها) تنفذ من خلال ذلك اللقاء (أو هل أقول من خلال تلك القُبلة) إلى أسرة محمود البسيطة، فهو متزوج فاطمة (ناهد السباعي) ولديه منهما ولدان صغيران.

في اختصار، فإن ما يعانيه محمود من رد فعل من المجتمع كونه اشترك في تلك الواقعة، يلتقي وما تعانيه ريم حينما تحذرها صديقاتها وزميلاتها من مغبة ما تقوم به من اهتمام مبني على شيء ما بين الاستلطاف والحب (نحن لا نسمع كلمة حب مطلقا بين الاثنين). لكن ريم لا ترتدع ساعية لدحض ما تراه حشد مواقف ضدها عبر توسيع دائرة اهتمامها ليشمل آخرين. هذا التوسيع متأخر في توقيته بالنسبة إليها كما بالنسبة للفيلم. وما يقلق هنا هو أن السبب الواهي الذي أدى بها لتبادل قبلة مع محمود (القبلة التي سيبني الفيلم عليها كل شيء لاحقا) لا يزال هو السبب الواهي في تحريك الأحداث قدما. لا نعرف مثلا لم تتصرف ريم على هذا النحو المعاند لما يراه كل مشاهد على أنه موقف خاطئ ما دامت العلاقة ليست حبا، ولا هي رغبة جنسية صرفة. ربما هناك عاطفة قلب، وربما هناك نداء جنسي، لكن الفيلم يبقى بمعزل عن اتباع أي من هذين الاحتمالين لكي يؤسس لما يقع لاحقا.

«بعد الموقعة» يدخل ويخرج من مشاهد معينة من دون استكمال معالمها. تتقدم شخصيات وتتأخر من دون حسابات درامية معقولة. هناك مشهد نموذجي لذلك هو ظهور زوج ريم فجأة، حيث يصرف الفيلم وقتا لا بأس به معهما وهما يتحدثان بألفة ويتبادلان بعض العبارات ذات المغزى في الوقت ذاته. حين ينتهي المشهد، ينتهي كل سبب له. لا نعرف ما الذي وقع نتيجة له.. هل اتفقا على العودة؟ هل أدركا استحالة ذلك؟ هل لا يزالان في الوضع نفسه؟ ليس معنى ذلك أن كل شيء عليه أن يكون واضحا، لكن إذا ما تم إدخال مشهد ما، فإن عليه أن يحمل سببا ونتيجة. «بعد الموقعة» نوع من الأفلام التي سيتكاثر الحديث فيها حول قضاياها وتعابيرها السياسية ومواقفها الفكرية وأبعادها الاجتماعية، وهو تفضيل جاهز لنقاد كثر، لكن أليس كل ذلك إسهاما في تحويل دفة النقاش من الفيلم كنتاج سينمائي بمفردات الصورة وبصرياتها إلى نتاج يكتفي باستخدام السينما وسيلة إيصال؟

يسري نصر الله، في الوقت الذي ينتقل فيه بين تأليف تسجيلي وآخر درامي (أحيانا بسلاسة) يخفق في معالجة سيناريو ينتقل بنقاطه من دون حل من المشاهد الأولى لها لمشاهد أخيرة. عند النهايات مثلا لا يزال الفيلم يتحدث عن وضع محمود من حيث إذا ما كان ضحية أو جلادا، مرددا مشهدا بعد آخر حيرة النظر إليه لا من قِبل ريم فقط، بل من قِبل الفيلم ومخرجه أيضا. لكن في نهاية المطاف، يحاول المخرج القول إن راكبي الخيول والجمال إنما كانوا ينصاعون إلى أوامر لقاء مكاسب (بالنسبة إلى محمود كل ما كان يريده هو هدم الجدار الذي تم بناؤه بين حارته والهرم!) لم تتحقق. ريم ترى أنه شارك باختياره. هذا البينغ بونغ الحواري يقع في أكثر من مشهد ثم ينقل رموزه معه على سطح الهرم حين نرى، في مشهد النهاية، محمود وهو يصعد حجارته محاولا الوصول إلى القمة. إنها لقطة رمزية بلا ريب، لكنها ليست خاتمة جيدة مطلقا.