«عشق آباد» مدينة الجمال العمراني.. تتوجس الغرباء

نساؤها جعلن المدينة أنظف مدن آسيا الوسطى

أحد المساجد الكبرى في العاصمة عشق آباد الذي تفتخر الدولة ببنائه الجميل
TT

تتوسد سلسلة من الجبال الشامخة، في شكل واد كبير، تبرز من داخله المدينة البيضاء، مفترعة اسمها من العشق والجمال، فسميت «عشق آباد» كأجمل وأنظف مدن آسيا الوسطى.

وتجسد عاصمة جمهورية تركمانستان، الجو العاطفي الذي يكتنفها، حيث الحدائق العامة والميادين الفسيحة والطراز العمراني لمباني المدينة التركمانية. مبانيها يغطيها الرخام الأبيض، وتضاء الأنوار ليلا حول المباني الرخامية المتزينة بالزجاج، والضخمة والعالية من حيث التصميم العمراني الذي يجسد إرثا عمرانيا.

طرقات المدينة الرئيسة تشع نظافة، بيد أن نساءها يعملن على «دلك» تلك الطرقات بـ«المناشف»، ويعملن طوال النهار في تنظيف مدينتهن، ويغلب على زيهن عصابة الرأس والقمصان بألوان زاهية مختلفة، ويحرصن على بقاء الشوارع وكأنها عبّدت من جديد.

وتتشح المدينة باللوحات الجمالية، فالمجسمات تتوزع بين حدائقها وطرقاتها، مجسدة عظماءها على مر التاريخ، من علماء وملوك ورؤساء، بينما تكسو المسطحات الخضراء حدائقها التي تتوزع بين الشوارع والأحياء في أرجاء المدينة.

الصحافيون الأجانب، الذين زاروا «عشق آباد» لتغطية مؤتمر وزاري حول اللاجئين في العالم، أصابتهم الصدمة من الموات الكبير الذي تعيشه تلك المدينة الجميلة، بيد أن مسؤوليها حرصوا على أن تتقطع بها السبل عن العالم حولها، وذلك بتغييب كل وسائط الاتصال الحديثة، حيث لا إنترنت ولا اتصالات إلا عبر قنوات تديرها السلطات.

غياب وسائط الاتصال الحديثة قتل دهشة وسائل الإعلام الزائرة، وحدد طرق النشر بأخبار «بايتة» تكتب حين العودة، فالكثير من الصحافيين كان متشوقا إلى زيارة «المدينة العشقية» لجمع كم كبير من القصص والحكايات التركمانية للعالم الخارجي، حيث حطت رحالهم في أول نقطة في المدينة من خلال مطارها المتواضع في مبناه، وقلت حركة الطيران والمسافرين، إلا أن أنظمتها تخضع لفحص وتدقيق يستغرقان وقتا لحين الخروج بعد الحصول على تأشيرة الموافقة.

فحين الخروج من مطارها، يلاحظ تميز طرقها بالإضاءة الخلابة التي وضعت بشكل هندسي يبرز مبانيها الرخامية التي يكتسحها علم الجمهورية التركمانية، إضافة إلى انتشار جمال السجاد التركماني بمزيج ألوانه، وتعدد المحلات التجارية بشتى أنواعها كمحلات المواد الغذائية التي تحمل مسمى (دكان) والمتعارف عليه لدى الكثير من الدول العربية بهذا الاسم، خاصة أن أغلب الكتابات واللغة لدى الدولة هي التركمانية والروسية فقط ونسبة بسيطة جدا ينطقون اللغة الإنجليزية، فكل تلك اللوحات الجمالية لم يتخيل الإعلاميون حينها صعوبة بثها وإرسالها لصحفهم اليومية، فالعيش بضعة أيام دون أن يجرى اتصال هاتفي أو أن يتم تصفح الإنترنت للتواصل مع الأصدقاء وصعوبة التقاط الصور نظرا للأنظمة البوليسية في الدولة، بعد أن رسم الصحافيون آمالا عريضة لبث لقطاتهم اليومية على صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، فلم يدركوا حينها صعوبة الدخول إلى الإنترنت مقابل حظر كافة مواقع التواصل الاجتماعي وصفحات البريد الإلكتروني في الـ«هوتميل» التي تعثر الدخول إليها على الإطلاق.

عشق آباد، أكبر مدينة في تركمانستان، وعاصمتها يبلغ عدد سكانها نحو 750 ألف نسمة، تقع هذه المدينة بين صحراء «قاراقوم» وسلسلة جبال كوكبت داغ. سكانها من التركمان، بالإضافة إلى الأقليات العرقية من الروس والأرمن والآذاريين، وتبعد نحو 250 كم عن أكبر مدينة في إيران.

وتحظر جمهورية تركمانستان، وتماشيا مع أنظمتها التي لا تزال متأثرة بالنظام السوفياتي، الكثير من المواقع في عالم الإنترنت، فندرة أماكن الإنترنت جعل أقلية من سكانها ملمين بتلك التقنية، مقابل عدم توافر وسائل الاتصال الهاتفية بالخارج إلا في أماكن محددة وبتكلفة تزيد على 5 دولارات للدقيقة الواحدة، مما حد كثيرا من الدور المنوط للوسائل الإعلامية.

وربما ينطبق ذلك المثل «رب ضارة نافعة»، ففي حين انشغال العالم بوسائل التقنية والتواصل عبر الشبكات، إلا أن «عشق آباد» أعادت الوفود المشاركة، وخاصة الإعلاميين منهم، إلى الوراء لعصور سابقة دفعتهم لعقد جلسات جانبية يتسامرون في ما بينهم، إعادة لزمن أجدادهم وآبائهم، مدركين حينها أن التقنيات الحديثة أبعدت تلك المظاهر الاجتماعية والجلوس على طاولة للحديث والتسامر بدلا من التواصل عن بعد كما هو منتشر حاليا بطبيعة الحال.

ولاحظ الصحافيون أنهم عندما حاولوا التقاط الصور للمدينة وأسواقها الشعبية والمعالم البارزة فيها، أن شعبها يتخوف من كاميرات التصوير التي تبدو أنها أمر مخل بالنظام، لكونها ممنوعة على الإطلاق إلا في أماكن محدودة جدا قد تكاد تعد على الأصابع. فعلى سبيل المثال، فوجئ باعة سوق الخضار بوجود الإعلاميين يتجولون بكاميراتهم لتصوير الحراك الجميل داخل السوق وما تشتهر به الدولة من فواكه محلية، إلا أن الباعة أشاروا بأيدهم على شكل علامة (إكس)، أي إن ذلك ممنوع هنا.

وتجول الأجانب على شكل مجموعات يرافقها رجل أمن، لتعريف الشعب بهم حيال استغرابهم بوجود أفراد من خارج الدولة الذي يعد أمرا غريبا بالنسبة لهم، مما خلق صعوبة في التجول للتعرف بالمدينة أكثر. حينها وصف أحد الإعلاميين الفلسطينيين تلك الحالة مستذكرا مقولة الشاعر (بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن جاروا علي كرام) فلن تدرك أن مجرد خروجك إلى شوارعها بحاجة إلى إذن بوليسي.

في المقابل وعلى الطراز الإسلامي، يقع مسجد كبير في المدينة، تفتخر الدولة ببنائه الجميل، كتبت على جدرانه بالحرف اللاتيني سطور من كتاب «روح نامه» الذي وضعه الديكتاتور السابق «صابر مراد نيازوف»، وفرضه في مناهج التعليم، مؤكدا أن من يقرأه 3 مرات، تكتب له الجنة. المسجد بنته شركة «بويغ» الفرنسية، بأموال عائدات الغاز الذي تعد الدولة في المركز الرابع عالميا من حيث الإنتاج.

ودعت الوفود والإعلاميون مدينة العشق التركمانية، وخيول حاكمها «قربان غولي بردى محمدوف»، الذي ألقى كلمته دون ترجمة للصحافيين، فليس من الضروري فهم ما يقول، فمشاهدته تكفي، بحسب ما قاله أحد رجال المخابرات ردا لاستغراب الإعلاميين من عدم ترجمتها بالإنجليزي على أقل تقدير حينها، تيقن أنك في مدينة سوفياتية سابقة تغلق النوافذ عند مرور موكب رئيسها مع الطرق المجاورة للمنازل والكثير من الأنظمة البوليسية التي رسمها الاتحاد السوفياتي منذ أكثر من 20 عاما مضت.