يوميات كان السينمائي 2012: بداية هابطة ثم ارتفاع مفاجئ

تقييم النصف الأول من المسابقة..

TT

لقطة أولى

* الممثل الذي لن يفوز.. والاستوديو الجديد

* نتيجة واحدة مؤكدة بالنسبة لجوائز المهرجان في هذه الدورة: لن ينالها الممثل الإيطالي أنييلو أرينا.. لا يستطيع أن ينالها. حين شوهد فيلم «حقيقة»، الذي يقوم أرينا ببطولته، صباحا (تبدأ العروض في الثامنة والنصف صباحا بينما العيون ما زالت متثاقلة) خرج معظم الحاضرين بانطباع واحد: تمثيل خليق بالجائزة، لكن الفيلم لا يرتفع إلى مستوى فيلم مخرجه ماثيو غاروني الأول «غامورا». وبين درجات النقاد نال الوسط وما دون، وهو بالفعل أقل قيمة من الفيلم السابق، علما بأن ذلك الفيلم لم يكن بتلك الدرجة القصوى من الأهمية بدوره. المهم هو أن السبب في أن أنييلو لن يكون من بين الفائزين لا علاقة له بالفيلم: الممثل محكوم بالسجن لعشرين سنة، وخرج منه بإذن لكي يمثل في هذا الفيلم ثم يعود إليه. أرينا، فنيا، لا بأس به ممثلا، وهو خبر التمثيل قبل هذا الفيلم حين أخذ يظهر على مسرح يتألف العاملون فيه من أصحاب السوابق. وإن كنت لا أدري ما هي التهمة المحددة التي وُجهت إليه، إلا أن بعض الإيطاليين هنا أخبروني بأنه متهم بالتخطيط لجريمة قتل. المخرج غاروني كان يريد هذا الممثل ليظهر في فيلمه السابق «غامورا»، الذي يدور حول أعمال عنف في مافيا نابولي، لكن القاضي رفض طلبه آنذاك.

* وهذا ثاني فيلم حديث يعهد ببطولته إلى سجين. كنا في مهرجان برلين تابعنا فيلم الأخوين الإيطاليين تافياني «قيصر يجب أن يموت» الذي نال الجائزة الأولى. الفيلم لم يكن من بطولة سجين واحد، بل كل من ظهروا فيه كانوا من السجناء، وذلك في تجربة سيني - مسرحية مقتبسة عن أحد أعمال ويليام شكسبير («جوليوس سيزر»). هذا يختلف عن بقاع أخرى من العالم. في معظمها يدخل المحكوم السجن ليبقى فيه خصوصا عند التمثيل في فيلم. بالتأكيد لم يحدث هذا في أي فيلم عربي، ولو أن العديد من الممثلين المتزوجين يهربون دائما إلى التمثيل منفردين نهارا ويعودون إلى بيت الزوجية ليلا.

* قررت مؤسسة «Twofour54» في أبوظبي المضي قدما في بناء استوديو سينمائي حديث كذلك الذي أسسته قبل ست سنوات مدينة دبي ويستقطب حاليا عشرات الأعمال في كل سنة (حسب جمال الشريف، المدير العام لمدينة دبي للإعلام نحو 85 فيلما مختلفا تم تصويرها في دبي خلال العام الماضي). المشروع الجديد سينطلق، حسب الخطة، في عام 2015، وتنوي المؤسسة اعتبار الاستعانة به - من قِبل شركات الإنتاج - بمثابة دخول الاستوديو في عملية الإنتاج ذاتها بنسبة ثلاثين في المائة. لكن الاستوديو أيضا، وحسب الإعلان الذي أطلق قبل يومين هنا في «كان»، سيسعى لتعزيز الأعمال ذات المضامين العربية، عربية كانت أو أجنبية.

شكل الأسبوع الأول من المهرجان ليس جديدا. الأفلام التي عرضت فيه، بدءا من «مملكة سطوع القمر»، فيلم الافتتاح الذي أنجزه ويس أندرسون، وحتى عرض فيلم كن لوتش «قسمة الملائكة» ليل يوم الاثنين، تراوحت بين الجيد والمتوسط، القوي والركيك، ولولا أن ثلاثة أفلام حملت رحيقا منعشا عرضت خلاله لكان تهاوى إلى حضيض مضجر.

إذا ما تجاوزنا عقدة فيلم الافتتاح، وعما إذا ما كان «عملا مبدعا»، كما وصفه البعض، أو فذلكة باردة الأوصال، كما هي حقيقته، فإن المسابقة شهدت خضتها الأولى عبر فيلم يسري نصر الله «بعد الموقعة». قبل العرض كان هناك ذلك الحماس الوثاب من أكثر من جهة: فالمخرج هو تلميذ المخرج يوسف شاهين الذي عرض غالبية أفلامه السابقة في «كان»، والمهرجان عرض ليسري «سرقات صيفية» (أول أفلامه سنة 1988) الذي تم إشراكه ضمن العروض الرسمية خارج المسابقة، ثم «باب الشمس» (2004) أيضا خارج المسابقة. ثم استقبل له ولمخرجين آخرين «18 يوم»، أول فيلم طويل ظهر حول أحداث يناير (كانون الثاني) 2011.

كون «بعد الموقعة» فيلم نصر الله الخاص عن تلك الأحداث، وكون المجتمع السينمائي توّاقا لمشاهدة فيلم مصري عنها، فإن اختيار هذا الفيلم بدا طبيعيا، مما جعل الحماس يتضاعف من قبل هذا الفريق الثالث الذي يريد أن يعرف ما لدى هذا المخرج ليقوله عن تلك الثورة التي ما زالت تبعاتها تدور. لكن المشكلة أنه لم يقل الكثير.. لم يتخذ موقفا.. لم يكشف جديدا.. وما قاله واتخذه وكشفه جاء حواريا إرشاديا ومتكررا.

في أعقابه غسل الفيلم النمساوي - الألماني «الجنة: حب» الذاكرة السياسية بأخرى عاطفية: كان لهذا الفيلم بعض مريديه بناء على محاولة ناجحة لتضخيم اسم المخرج أولريخ سيدل الذي كان أنجز قبل أربع سنوات فيلما أحبه النقاد هو «إمبورت - إكسبورت». مثل هذا الفيلم كان ذاك تعليقا اجتماعيا، لكن الفيلم الجديد يحمل تعليقا مزدوجا: عن النساء الأوروبيات اللواتي تجاوزن الأربعين واستبدلن الرشاقة بالبدانة ويتوجهن لكينيا للبحث عن المتعة الجنسية كما يوفرها الأفريقيون.. في المقابل هؤلاء الأفريقيون الذين حوّلوا العرض والطلب إلى بيزنس يساعدهم في تكاليف الحياة.

هذا الفيلم لم يشهد قبولا نقديا كبيرا، مما جعل المهرجان يبدو كما لو أنه حط في بؤرة سيصعب الخروج منها، وما لبث فيلم «حقيقة» لماتيو غاروني أن أكد ذلك. «حقيقة» أو (Reality) التقى من حيث لا يعلم مع «صدأ وعظام» للمخرج الفرنسي جاك أوديار. كل من غاروني وأوديار سبق له أن خرج بسعفة ذهبية (الأول سنة 2008 عن «غامورا» والثاني سنة 2009 عن «نبي») مقدما عملا غير تقليدي من أوجه كثيرة. أسلوب واقعي وقريب من الموضوع المعاش يجعلك تعتقد أن أعمال المخرجين، خصوصا بعد نجاح تجربتيهما، ستتمحور على هذا الصعيد. لكن «حقيقة» جاء أقل قيمة مما أريد له أن يكون متحورا حول عالم «رياليتي شو» التلفزيوني والسعي الدؤوب للمشتركين لتحقيق الشهرة والمال، وما قد يتبع ذلك من وراء مثل تلك البرامج، و«صدأ وعظام» دلف كقصة ذات معالجة تقليدية لمأساة عاطفية المنشأ وعاطفية التصدير والمعالجة أيضا.

كلا الفيلمين لم ينجز المأمول، لكنهما كانا التمهيد الصحيح لفيلم «الصيد» للدنماركي توماس فنتربيرغ من حيث أن الحضور أخذ يبحث عن منقذ فعلي. المخرج كان شارك في تأسيس المنظومة الراحلة المعروفة بـ«الدوغما»، وأول من تركها أيضا. وفيلمه «الصيد» دراما اجتماعية موجعة في المكان الصحيح، وسؤاله: من الذي سيعوّض على رجل ما يمر به من إذلال وإهانة ومخاوف عزلة عندما توجه إليه تهمة التحرش جنسيا بالأطفال وهو بريء منها؟ ليس سؤالا جديدا، بل سبق للمخرج الألماني جاكوب ثيولن أن عالجه في الفيلم الذي شارك مسابقة مهرجان برلين في دورة 2005 وخرج من دون جائزة. لكنه سؤال متجدد في إطار حكاية مختلفة ومعالجة فنية جيدة (اقرأ النقد أدناه).

هذا كان أولى علامات التحسن في المستوى، إذ تبعه على الفور «وراء التلال» لأحد أشهر مخرجين في السينما الرومانية الجديدة وهو كريستيان مونجيو (الثاني والأفضل إلى حد ملحوظ هو كريستي بويو صاحب «موت السيد لازارسكو) الذي تعامل مع حكاية المؤسسة الكنسية في مواجهة مأزق أخفقت في معالجتها، كما تقدم في نقدنا للفيلم قبل أيام. ليس أن فيلم مونجيو جدير بالجائزة بحكم ما تلاه من أفلام بعضها أفضل، بل بدا كذلك حين خرج الحضور منه قبل منتصف الليل معجبين بتصويره ورصده وتمثيله.

وفي حين أخفق بعد ذلك «بلا قانون» لجون هيلكوت في إثارة الحماس، جاء «حب» لميشال هينكه كتتويج لنهاية نصف أول وبداية نصف ثان من دورة تقف على المحك لأسباب قد نعود إليها قبل نهايتها.

أفلام كان حب هنكه للفيلم البسيط والمعقد طريقه إلى السعفة - «Lُُ ‘Amour» (4*) - «حب» - ميشال هينكه - ألماني - فرنسي - نمساوي (المسابقة)

* في عام 1997 أنجز المخرج الروسي ألكسندر سوخوروف «أم وابن» حول شاب (أليكساي أنانيشنوف) يعيش مع أمه العجوز التي تعاني من الهزال والضعف (غودرن غيير) في كوخ على ضفاف نهر في منطقة ريفية. الفيلم يدور في اليوم الذي ماتت فيه الأم، وقبل موتها مشاهد للابن وهو يعتني بأمه أيما عناية، ويحدثها، ويسرد لها الشعر، ويداويها ويصبر عليها ويحملها، في مشهد لا يغيب عن البال، لخارج الكوخ حيث يضعها على ضفة النهر لعلها، قبل مضيها من هذا العالم، تتمتع بجماله.. ثم تموت.

بما أن الفيلم كان حزينا قبل موتها، فإن الحزن المتوقع لما بعد ذلك ليس فادحا. وما يجعل ذلك الفيلم قمة في التعبير العاطفي تلك الوجدانيات الإنسانية المذهلة التي يغيب معظمها عن فيلم ميشال هينكه الجديد، وإن كان الفعل الإنساني حاضرا بدوره، ولو على طريقة المخرج المختارة بعناية.

يبدأ بمشهد اقتحام البوليس (الفرنسي) لشقة كبيرة والاندفاع صوب باب غرفة النوم وخلع الباب أيضا، حيث يكتشف جسد آن (إيمانويل ريفا) الميتة. ثم ننتقل إلى ما سبق ذلك من أحداث أدت إلى موتها: إنها امرأة عجوز تعيش مع زوجها المتقاعد جورج (جان - لوي تريتنيان) في ذلك البيت ولديهما ابنة متزوجة اسمها إيفا (إيزابيل أوبرت). في أحد الأيام تصاب آن بعارض شلل فتفقد بعض القدرة على الحركة. يرصد المخرج هنا تأثير ذلك المباشر على الزوج وعليها، إذ تصبح أكثر امتعاضا. بعض الواجبات لا تزال تستطيع القيام بها، لكن الزوج يقوم بالبعض الآخر، ثم تزداد واجباته مع تعرضها لعارض آخر تفقد معه القدرة على الحركة التلقائية تماما كما على النطق. خلال ذلك تزور ابنتهما المنزل في طلات متوترة، فالأم لا تطيق زوجها الإنجليزي ولا تريد لأحد أن يراها مسجاة على فراش المرض. من ناحيته يعمد الزوج بصبر وأناة إلى العناية بها، وحين يستعين بممرضة جديدة يلحظ أنها لا تقيم وزنا لحاجات زوجته فإنه يطردها. هذا ما ينقل كل الرعاية إلى الزوج الذي يستمر محبا وباذلا. هنا يقع أمران: الأول أن هذه الرعاية واستمرار الحب والبذل لا ينتج عنهما مرور الفيلم في حالة فتور على الإطلاق. الفترة الفاصلة بين تردي حالة الزوجة وتمهيدات النهاية في الجزء الأخير من الفيلم تبقى بالغة التوتر، وأسلوب المخرج القابض على الأنفاس ببساطته الظاهرة وتعقيداته الداخلية يستمر قويا في دلالاته. الأمر الثاني حمامة!.. من نافذة الحجرة المطلة على فناء البناية تغط حمامة وتبدأ بتناول طعام تجده على الأرض (واضح لمن لديه حمام أن المخرج أمر بنثر الطعام خصيصا). الزوج يكتشف وجودها وهو يكتب فينصرف إليها ويخرجها من النافذة المفتوحة ثم يقفل النافذة.

لاحقا، قبل النهاية سنرى الحمامة وقد عادت وهذه المرة إلى داخل الشقة تأكل ولا تهاب محاولات الزوج (الذي كان حينها يكتب أيضا) القبض عليها. ثم يقبض عليها فعلا وينتهي المشهد. وبعد قليل يكتب لابنته يخبرها بأنه أطلق سراح الحمامة.. لكن هل فعل ذلك حقا؟

هذا المشهد الثاني يتبع عملية تركيب يبرع فيها المخرج عادة. لا ننسى أنه بدأ مما بعد النهاية باقتحام البوليس لغرفة المرأة الميتة تاركا في الذهن سؤالا حول الظروف التي أدت إلى الوفاة. هذا في حد ذاته تركيب إخراجي لافت (وليس جديدا على مخرج «لاعبة البيانو» و«الشريط الأبيض» من بين أخرى) إلى أن تدخل الحمامة في معادلة غامضة. ما هي؟ لماذا مشهداها؟ هل أطلقها جورج حقا؟ إذا فعل ذلك، لمَ لمْ نره يفعل ذلك؟

قبل مشهد الحمامة الثاني، كان الرجل يحلق ذقنه.. يسمع زوجته تتألم.. يهرع إليها.. يجلس إلى جانبها ويأخذ يدها بين يديه ثم يبدأ الحديث إليها. يسرد عليها قصة حدثت له وهو صغير حين تم حبسه ثلاث ساعات في المدرسة لسوء تصرف. ما إن ينتهي من القصة حتى ينقض على الوسادة الأخرى بجانب زوجته ويضعها على وجه الزوجة ويخنقها بها. ثم، ولمزيد من الغموض، هناك المشهد الختامي: ها هما (الزوجة والزوج) يتهيآن للخروج من البيت. ينسى معطفه فتذكره. يرتديه. يتبعها لخارج البيت. ينتهي الفيلم. فمتى حدث ذلك؟ ولماذا هو معروض؟

للإجابة عن كل هذه الأسئلة، على المشاهد أن يعود إلى أفلام هينكه السابقة: العلاقة المتوترة بين الأم وابنتها في «عازفة البيانو». الموت انتحارا وقتلا في العائلة في «القارة السابعة» وذبح الدجاجة (رغم أننا لا نراه يذبح الحمامة) في «مخبوء»، كذلك معظم الوارد في سياق الحكاية التي يرويها الزوج قبل تخليص زوجته من نفسها وتخلصه منها معا والتي تعود بنا إلى «مخبوء» أيضا. العالم المنزوي بأسره داخل جدران ذلك البيت الكبير الفارغ باستثناء الاثنين، هو ذاته في «مخبوء» حيث الشخصيات حبيسة جدرانها النفسية كما جدران البيت الداخلية. تصوير داريوش خوندي يمنح البيت إضاءة خافتة وناعمة (مقابل تصوير أكثر حدة قام به كريستيان برغر في «مخبوء»).

ليس هناك ما يحول دون خروج هذا الفيلم بجائزة السعفة، كذلك أحد ممثليه المخضرمين أو كليهما. «حب» هو عن حب، لكنه حب صعب. ليس حبا رومانسيا (لن تسمع شيئا من قبيل «أنا بحبك يا بهية وأبقى طول عمري لجانبك»)، بل حب من العمق ولو من دون وجدانيات الفيلم الأسبق «أم وابن».

المخرج الذي ضاع في اليابان! - Like Someone in Love»» (2*) - «كواحد في الحب» - عباس كياروستامي - فرنسي - ياباني (المسابقة)

* بعد نحو ثلث ساعة من بدء الفيلم، تنظر الفتاة أكيكو (رين تاكاناشي) إلى صورة مرسومة معلقة في منزل رجل عجوز وتقارن نفسها بصاحبة الصورة متحدثة عن ملامح مشتركة ثم تضيف «لكن عينيّ أكبر». بعد خمس دقائق أخرى يسمح لنا المخرج كياروستامي بإلقاء نظرة على تلك اللوحة فإذا بالمرأة فيها مرسومة جانبيا.. فقط من باب الواقع: كيف يمكن لأحد أن يقارن عينين ليستا واضحتين في لقطة جانبية مع عينيه ويقول إنهما أكبر أو أصغر؟

عنوان هذا الفيلم مأخوذ من أغنية لإيلا فتزجيرالد، التي كانت واحدة من أكثر مغنيات الجاز موهبة. والفيلم يفتح على موسيقى جاز في حانة والكاميرا ثابتة في مكانها، يدخل إليها ويخرج منها بعض الشخصيات التي لن نرها لاحقا. حين تنتقل إلى أكيكو، نتابع ما تشكو منه مباشرة، فخطيبها يؤنبها على كذبها، وجدّتها تتصل بها سبع مرات طالبة منها الحضور. هي فتاة متعة في الليل وطالبة في النهار. وها هو القواد «الأنيق» يطلب منها الذهاب إلى موعد اختاره لها. ورغم تمنعها فإنها تتجه إلى هناك لتجد نفسها في بيت عجوز في مثل سن جدها. يتبادلان الحديث طويلا قبل أن تنام عنده من دون أن تمارس معه الجنس.

كالعادة، تشكل سيارة التاكسي (أو أي سيارة في الواقع) في أفلام كياروستامي رمزا خاصا لا ينضح بشيء ندركه باستثناء أن السيارة عالم صغير للفضفضة عن النفس - إذا ما كان هذا الرمز هو المقصود. وهذا ما يحدث هنا على أي حال. نصف الفيلم في السيارات، ونصفه الآخر في منزل العجوز وفي الأماكن الأخرى جميعها. وهو من الأخطاء التي لا تبرير لها، فكيف تستمع أكيكو إلى رسائل شفهية مسجلة على هاتفها والسماعة في أذنها، لكن صوت المتصل واضح ومسموع على نحو جلي لدى سائق التاكسي والمشاهدين على حد سواء.

طبعا سيدلف إلى الحبكة ذلك الخطيب العصبي الذي اعتقد أن العجوز هو جدّها، وحين يعلم لاحقا أنه ليس كذلك يثور ويهاجم المنزل. اللقطة الأخيرة لحجر يُلقى على زجاج البيت يتراجع تحت صدمته العجوز ويسقط أرضا و... النهاية. كيف ولماذا.. هل هي نكتة؟ هل هي رسالة بليغة؟ لا على الإطلاق. إنها نهاية لا معنى لها نجد مثلها في نهاية فيلم «وراء التلال» للروماني كريستيان منغو، الذي من بعد كل المآزق النفسية والأحداث الجادة التي يجسدها الفيلم ينتهي بلطخة من الوحل تلقى على زجاج السيارة التي تقل المتهمين بجريمة قتل.

لكن فيلم منغو على الأقل له هوية وطنية. فيلم كياروستامي الياباني التصوير لا سبب له. ليست هناك حالة درامية ملحة ولا يعكس هوية ثقافية. الأحداث ذاتها يمكن لها أن تقع بسهولة في فرنسا أو هولندا أو جنوب أفريقيا أو البرازيل.

هناك اهتمام بالأجواء العامة محمود. لكن ما يقع ضمن هذه الأجواء يفتقد الضرورة. إلى ذلك، يستعير كياروستامي تلك الأجواء وفن التوقيت والإيحاء بالجو المكبوت أو الخطر الذي قد يقع (وقد لا يقع) من مشاهداته الكثيفة لسينما ميشيل هينكه.