يوميات «كان» السينمائي 2012 : لا يمكن لمدير مهرجان أن يقول: أنا اكتشفت هذا السينمائي

المدير العام لمهرجان «كان» تييري فريمو

تييري فريمو
TT

بصفته المندوب العام لواحد من أهم المهرجانات السينمائية في العالم، يقوم تييري فريمو بإدارة هذا الحدث محافظا على هذا تاريخ هذا المجد. إنه ليس اختيارا بل هو عمل مجهد يبدأ كل سنة بعد أسبوعين من انتهاء الدورة الماضية. في العام الماضي حل مكان جيل جاكوب الذي يتبوأ الآن مركز الرئاسة، وبذلك أصبح فريمو الرقم الحقيقي في الأولوية والتنفيذ والمسؤول الأول في القرارات. انطلاقا من هذه الأهمية تم إجراء هذه المقابلة..

* حفلت الدورة الحالية ببعض مظاهر السينما العربية، من بينها اشتراك فيلم «بعد الموقعة» في المسابقة. لكن هل ترى معي أن هذا الاشتراك لا يزال محدودا وأن هذه السينما غير قادرة للأسف على مواكبة المتطلبات الدولية؟

- أولا: علينا أن نعترف بوجود السينما العربية، وأنها تنبع من تقاليد عريقة. ثانيا: حقيقة أن السينما العربية لم تتناول سوى المواضيع التي تجتذب الجمهور المحلي لعقود أعاقت دخولها للسوق الكبرى، حيث كان يمكنها أن تتطور. ولأجل ذلك تحتاج السينما العربية إلى أداتين هما: التدريب والتعليم وتأهيل سينمائيين للمستقبل.

* كيف يمكن لمهرجاناتنا العربية تقديم يد العون للمخرج العالمي؟

- من الصعب لي أن أتحدث عن هذه المهرجانات، لأنني للأسف لم أحضر أيا منها. فهي حتى الآن لا تعد جزءا من المهرجانات «الكبرى» لكنها موجودة بالتأكيد مع هويتها الخاصة وخصائصها القوية، وهي الآن تقف على أسس راسخة في مجال صناعة السينما. وعلى أي حال، أصبحت تلك المهرجانات ضرورية، لأن الأفلام لا تزال بحاجة إلى التقديم في هذا الوقت من العام. أنا أعتقد أنه لا يوجد تنافس بين المهرجانات، لأن جميعها يؤدي الدور المطلوب وعلى أكمل وجه. وأنا دائما أقدر اهتمام دول الخليج بالسينما. فهذه هي البداية فقط، وقناعتي أن هذه الدول سوف تفاجئنا يوما ما.

* ما العناصر التي تبحث عنها في الفيلم المتسابق؟

- يشارك في المهرجان 1700 فيلم كل عام، وعلينا أن نختار الأصلح للمنافسة. وحتى إن ظهر أن اختيار الأفلام هو مسألة شخصية فنحن نعلم ملامح الفيلم الجيد. وغالبا ما يثق العالم في اختيارنا. وفي نهاية العام، عندما يحين الوقت للمراجعة والتحليل نرى أن لجنة تحكيم مهرجان «كان» لم تكن بعيدة عن الواقع كثيرا. ورغم أن رسالتنا محدده فالسينما فن قبل كل شيء. دعنا نظهر إعجابنا بهؤلاء الذين يخرجون لنا نماذج جديدة ويجب أن لا ننسى الذين يخلدون الأعمال الكلاسيكية. فاختياراتنا تقوم على هذا المفهوم. ونحن نحترم الأداء ونحترم فكرة أن السينما تستطيع ابتكار مستقبل جديد في كل مرة يقدم فيها المخرجون عملا فنيا جديدا عن الحداثة. ولا شك أن حزمة الأفلام الجيدة هي محصلة مجموعة من الأفلام الجيدة. وبعد ذلك يأتي دور المهنيين والنقاد.

* أي من المخرجين الجدد تعتبره اكتشاف المهرجان؟

- بالنسبة لنا، يعتبر الاكتشاف هو الطريقة التي نقيم بها الأفلام أو المؤلفين خلال المنافسة. ولكن المفهوم المقدس للاكتشاف يزعجني أحيانا. فالسينما ليست مثل الأدب، فأديب مثل آرثر رامبو كان يكتب أعماله على أحد المقاهي. صانعو السينما المستقلون فعلا قليلون جدا. ولا يمكن لمدير مهرجان كبير أن يقول: «أنا اكتشفت هذا السينمائي». ومن يصنع السينمائي هو شخص ما قد يكون المنتج ذاته. لكن هناك نماذج رائعة من المخرجين سلط المهرجان عليهم الضوء مثل باولو سورينتينو، وكريستيان مونجو، وسيرجوي لوننتسا، وكارلوس ريجادا.. وغيرهم. وصل إلى أيدينا فيلم «بليسوفولي يورز»، وهو أول فيلم من إخراج المخرج التايلاندي المستقل أبيشات بونغ ويراسيثاكول على شريط «في إتش إس» (VHS). وكان هذا في عامي الأول مع المهرجان. فلفت صديق ياباني انتباهي إليه وبعدها بـ10 سنوات فاز هذا المخرج بجائزة السعفة الذهبية. وهنا تأتي أهمية مهرجان كان.

* لقطة أولى: معارك جانبية مشادة تنتهي باعتذار

* شخصان يمران بجانبي في قصر المهرجانات وفريق تصوير وراءهما. يسير الجميع ببطء ثم يبدآ الهبوط على أحد الأدراج. الجمهور ينظر ويعلق ويمضي. لقد أدرك أن المشهد جزء من تصوير فيلم ولن يتدخل لإفساد مجهوده. الشخصان هما الممثل أليك بولدوين والمخرج جيمس توباك، والكاميرات ليست لإجراء مقابلة مع أحدهما أو كليهما، بل لتصوير فيلم تسجيلي بعنوان «مُغرٍ ومهمل» يدور حول صعوبة إيجاد تمويل لفيلم أميركي مستقل.

بولدوين، وهو ممثل سينمائي وتلفزيوني ناجح، أمضى أيام «كان» كلها هنا على غير عادة أولئك النجوم الذين يحطون لبضعة أيام ثم يسافرون بعيدا على أمل العودة إذا ما ربحوا السعفة. لكن المختلف بالطبع أن بولدوين يعتبر «كان» هذه المرة محطة عمل وإلى جانب هذا الفيلم هو أحد الوجوه الحاضرة بمناسبة إطلاق «السينما ضد الإيدز» التي جلبت بضعة مشاهير إلى حفل هدفه جمع التبرعات ولفت الأنظار إلى أن المعركة ضد ذلك المرض العضال ما زالت قائمة. لكن هنا يبدأ التشابك كما لو كنا في حضرة عمل درامي: بولدوين كان هاجم المنتج النافذ هارفي ونستين بعدما تمنع الأخير من مساعدته والمخرج توباك في تمويل الفيلم. وحسب شهود عيان هاجم بولدوين ونستين وربما وصفه بـ«الأحمق»، ولو أنه اعتذر منه بعد ذلك شفهيا.

فيلم إيراني ضد اليهود

* هل فيلم «ضد السامية» ضد السامية؟

يبدو ذلك، وبناء عليه فإن فيلم «ضد السامية» تم سحبه من سوق الفيلم في «كان» لأنه.. ضد السامية. لكن قبل ذلك السحب والمنع من العرض حتى في إطار السوق، كان لافتا وجود هذا الفيلم بين تلك المصنوعة حديثا والراغبة في نيل حظها من العرض والتوزيع. فهو أعلن عنه كواحد من الأعمال الـ4659 التي ضمتها السوق (بزيادة قدرها 25 في المائة عن عدد الأفلام التي عرضت في سوق العام الماضي، حسب مصدر السوق). لكن مساء يوم الجمعة بات مؤكدا القرار الذي اتخذ بمنع عرضه في السوق مع تصريح لجيروم بيلارد، المسؤول عن هذا الجانب الحيوي من المهرجان يقول فيه: «سوق (كان) ليست مكانا لأفلام تتعرض إلى الأديان والقناعات وليس هناك مكان لهذا الفيلم هنا».

الفيلم بالطبع لم ير، لكن بالبحث نعلم أنه فيلم من بطولة وإخراج الكوميدي الفرنسي (الأفريقي) دييوني مبالا مبالا، ويشترك فيه نافي المحرقة روبير فوريسون، وفيه مشهد يظهر فيه الممثل مبالا وهو يرتدي زيا نازيا، وفي آخر سخرية من معسكرات الاعتقال النازية. بما أن الفيلم ممنوع عرضه في «السوق» (ولو عرض لما تمكنت الصحافة من مشاهدته إلا بدعوات خاصة)، فإنه لا يمكن الحكم عليه نقديا وعلى نحو مستقل.

لكن الآتي أعظم: الفيلم، كما ذكر أحد المراجع، من إنتاج «المركز الإيراني للفيلم الوثائقي والتجريبي»، وكان سبق للمخرج إطلاق تصريحات أثارت الجاليات اليهودية منها قوله إن «اليهودية خدعة».

* ما حكاية السيارات في دورة «كان» الحالية؟

يبدأ فيلم «طعم العسل» للكوري إم سانغ سو بمشاهد بديعة لسيارة فاخرة تقطع شوارع العاصمة وتسير بثبات فوق أحد الجسور العالية، كما لو كانت تتهادى فوق بحر ساكن. لكن في الخلفية وفي الشوارع الممتدة تحت ذلك الجسر حركة سير مكتظة عبر عنها المخرج جيدا حين اختار دمج المشهد الرئيسي لليموزين السوداء في الخلفية المذكورة بسرعتين مختلفتين: السيارة بسرعة عرض طبيعية، والسيارات الأخرى بسرعة عرض منفذة على الكومبيوتر، مما يخلق إيقاعين مختلفين في اللقطة الواحدة. بعد ذلك ليس هناك الكثير من المشاهد التي تقع أحداثها في السيارة، لكن ما هو هناك حاسم دائما في هيكل حكاية تتحدث عن عائلة ثرية جدا تضم الجد والأب والأم والأولاد والخدم. عين المخرج على التقاطع القائم، كما في بداية الفيلم، بين هذه المستويات المختلفة معيشيا وطبقيا، وكيف أن بطل الفيلم يجد نفسه ما زال ضحية وضعه بأنه مجرد مساعد أجير رغم حاجة تلك العائلة إليه.

لكن السيارة في 3 أفلام أخرى لها أدوار أكثر حضورا. إنها في بعضها الفيلم بأسره. ما يقع في داخلها هو مفتاح دخول وخروج للشخصيات وللعالم الذي تدور فيه.

تابوت كروننبيرغ ها هو فيلم ديفيد كروننبيرغ «كوزموبوليس» يضع بطله (الملياردير أيضا) إريك (روبرت باتنسن) في سيارة «ليموزين سترتش» (الأطول والأفخم) بعدما أصر على أن يجتاز مدينة نيويورك من أقصاها إلى أقصاها لكي يقص شعره عند حلاق معين كان يعرف والده. وهو اختار اليوم الذي حل فيه الرئيس الأميركي في المدينة، ما يعنيه ذلك من إغلاق طرقات وازدحام مواصلات. وبالفعل يحل الليل والسيارة ما زالت في طريقها. لكن ذلك مع حسبان عدد من محطات التوقف التي يخرج منها إريك من السيارة ليقابل بعض الناس في طريقه، بينهم زوجته السابقة (سامانثا مورتون) التي يحاول العودة إليها معبرا عن اشتياقه العاطفي إليها. لكن إريك ليس بوضع المنتظر، هناك 3 خلوات عاطفية في الفيلم؛ اثنتان منها في السيارة الليموزين ذاتها (إحداهما بينه وبين الممثلة الفرنسية جولييت بينوش).

إذا ما كانت رحلة السيارة بطيئة وصعبة (وفي الأصل تتطلب تبريرا أفضل من ذلك الممنوح)، فإن الفيلم يعاني أيضا من بطئه وصعوبة إقناعنا بما يدور حوله. لكن ما يهمنا هنا هو الوضع الناتج عن مجمل أحداث تدور داخل السيارة. على هذا الصعيد، فإن هذا الداخل أقرب إلى تابوت متحرك في جنازة بطيئة. التصميم الإنتاجي وظف اللون الأسود والأضواء المحدودة واللقطات ذات البؤرة البعيدة لكي تمنح المشاهد تماثلا بين الجنازة الموحية بالتصميم العام لمكان الحدث (داخل السيارة) ونهاية عالم الملياردير غير القادر على توجيه حياته بعدما وصل إلى قمتها المادية والاجتماعية مبكرا.

في النهاية إريك ميت يتنفس. لقد خسر السيارة وقتل معاونه الأول (نقص القدرة على الإقناع متمثل هنا أيضا) والتحم بمشادة مع موظف سابق له (بول جياماتي) تكاد تنتهي بمقتله. في المقابل، فإن ما حاول الفيلم أن يشيده من عمق البحث في حاضر اقتصادي واقعي قائم على المستفيدين من النظام الرأسمالي وعلى الغالبية المتضررة منه في أميركا اليوم، منسوف بعبارة الفيلم الأخيرة التي تدعو إلى الصلح بين الاثنين.

أكثر من قناع السيارة في هذا الفيلم - وبنجاح - إلى جانب كونها رمزا لتابوت، هي نقطة سفر تبدأ بقناعات وتنتهي بقناعات أخرى، وهذا هو ما يحدث أيضا في فيلم «موتورات مقدسة» للفرنسي ليوس كاراكس. هنا أيضا تلك السيارة الليموزين، لكنها بيضاء اللون. والرحلة تنطلق نهارا، لكن الليل يداهمها سريعا. لا زحام أمامها ولا هي تشبه التابوت ولا يوجد فيها طروح اجتماعية واقتصادية، لكنها رغم ذلك رمز لمصنع من الغرائبيات. فالراكب الذي يستخدمها واسمه أوسكار (دنيس ليفانت) يدخلها بشخصية ويغير شخصيته داخلها، ثم يخرج ليمثل هذه الشخصية في الحياة العامة. السيارة ليست بفخامة الليموزين سترتش في فيلم كروننبيرغ، لكنها تلبي الحاجة، لأن جزءا كبيرا منها مشغول بمرآة وطاولة للزينة وبصندوق واحد على الأقل توجد فيها كل أنواع الشعر الصناعي وأدوات التمويل. أوسكار، ومن دون سبب معروف في البداية، يخرج من السيارة في كل مرة بشخصية مختلفة. في البداية هو امرأة عجوز، ثم رجل أعمال ثري، وعجوز على حافة الموت، ومشوه بشري يعيش في المجارير ويخطف امرأة جميلة، وصعلوك، وقاتل.. وهو في كل هذه الشخصيات يمثل، كما نعرف لاحقا، دورا في برنامج منفذ من قبل مجموعة تتخذه وما يقوم به لهوا استعراضيا.

جزء من هذه الشخصيات سبق له أن ظهر في الجزء الذي أخرجه كاراكس من فيلم ثلاثي الإخراج عنوانه «طوكيو» شاركه تحقيقه كل من جون - هو بونغ وميشيل غوندري. هذا الجزء هو ذاك الذي نشاهد فيه ذلك المخلوق البشري المشوه الذي يخطف امرأة جميلة ويهدد سلامة الناس قبل وبعد ذلك لاجئا إلى المجارير. لسبب وجيه، فإن هذا الجزء في الفيلم الثلاثي يبدو أكثر تمتعا بالمعنى من حالته الحاضرة، هنا في فيلم ينشد الصدمة ويدعي المعنى من جراء التصدي للغرابة وحدها. لكنه يبقى لافتا وصادقا لما يحاول إنجازه منفردا. الفيلم بسيارته ومغزاها المحدد قد يكون المقابل لعالم بات أقل خيالا مما تحمله أي ربع ساعة من هذا الفيلم. عالمه هو التضاد للعلاقة الضيقة التي بات الواحد منا يحياها أمام التقنيات الحديثة. انصبابه على تحويل الهاتف الجوال والكومبيوتر والمبتدعات التقنية الأخرى إلى كل ما لديه من علاقات وما يطلبه من مساحات فكرية وروحية.

عبر أميركا الفيلم الثالث هو ذاك الذي تحدثنا عنه يوم أمس: «على الطريق» وهو فيلم مختلف تماما عن الأفلام الـ3 التي سبق ذكرها. الخمسينات ثم الستينات كانت سنوات اكتشاف وجه آخر لأميركا قاده شباب ذلك الجيل، وفحواه الخروج من التقاليد العائلية والدينية والمحرمات المختلفة صوب حياة تتألف من جناحين: الانطلاق والحرية. جزء منه هو سيرة ذاتية للكاتب جاك كيرواك متخفية في شخصية أخرى (تلك التي يقوم بها سام رايلي). قسم آخر منه هو تجربة للحديث في ذلك الصرح الزمني السابق لأميركا وثقافاتها الشبابية آنذاك (نهاية الخمسينات). في كل هذا وذاك، هناك السيارة (أو عدة سيارات في الواقع) وكلها من الفترة ذاتها: قديمة وضخمة وسوداء أو داكنة تقطع الرحاب البرية في سرعة وقوة وداخلها عصبات الشباب اللاهي. السيارة هنا ترمز إلى الزمن كما إلى الوسيلة التي تمكن الفيلم من قص حكايته. وهي ليست سيارات ليموزين بل سيارات عادية الحجم. وذلك له مرجع اجتماعي كما هي الحال في «طعم العسل» و«كوزموبوليس» و«موتورات مقدسة». في تلك الأفلام الـ3، فإن الشخصيات إما بالغة الثراء («طعم العسل» و«كوزموبوليس») أو موظفة من قبل بالغي الثراء («موتورات مقدسة»). في «على الطريق» هي سيارات أشخاص ليس لديهم أكثر من بضعة دولارات.

لكن فقط لو عكس الفيلم ثراء معنويا أو عمقا غنيا بمدلولاته لعوض فقر شخصياته. أبطاله يشحذون ويسرقون ويرتكبون الآثام وذلك للانتقال من نقطة إلى نقطة في مشوار لا يصل. مشاهد سرقتهم للبترول وللطعام تصبح المنوال الذي يمكنهم من تجاوز عثرات المكان راغبين فقط في تغييره من دون وجهة أو قصد. كما الأفلام الـ3 الأخرى، الفيلم فيه غنى بصري شاغل للعين. لكن أيضا فيه فقر في التعبير عن المقصد النهائي وإيداع الفيلم في نهاية تكشف السبب في الاحتفاء بما نراه من دون وجهة نظر المخرج فيه.