«سينكييه» أشهر مقاهي جنوب فرنسا يطفئ 125 شمعة

صنع جانبا من أسطورة «سان تروبيه» وفيه مد شيراك ساقيه الطويلتين

واجهة المقهى المطل على كورنيش البلدة
TT

لا أحد يعرف السر الذي يجعل من بلدة «سان تروبيه» البقعة الأكثر سحرا من غيرها من مدن وقرى الشاطئ الجنوبي لفرنسا، مثل نيس وكان وسان رافاييل. كما أن أحدا لم يحل اللغز الذي يجعل من مقهى «سينكييه» المطل على كورنيش البلدة المكان الأكثر شهرة وجاذبية من عشرات المطاعم والمقاهي التي تمتد على امتداد السواحل الرملية الناعمة. هل الشمس هنا «أجمل من سواها» كما قال الشاعر العراقي السياب عن شمس بلاده؟ أم أن الكراسي والمفارش والسقوف الحمراء للمقهى تجعل الزبون يتوجه نحوها مثل الثور الذي يلاحق المصارع؟

يحتفل مقهى «سينكييه»، هذه الأيام، بمرور 125 عاما على تأسيسه. ويتباهى القائمون عليه بأنه المكان الذي تتابع على الجلوس فوق مقاعده أبرز مشاهير فرنسا من فنانين وسياسيين ورجال أعمال أو رجال مافيات، عدا السياح والمتطفلين والفضوليين العابرين. فقد كان المكان الذي اجتذب النجمة بريجيت باردو، وهي في عز مجدها، وشجعها على اقتناء منزل في البلدة والإقامة فيها صيف شتاء. كما تناقلت الصحف صور الرئيس الأسبق جاك شيراك وهو يجلس في الصف الأول المطل على الميناء من المقهى، ممدا ساقيه الطويلتين أمامه ومتمتعا بشمس المتوسط وبالتقاعد من المناصب الثقيلة المتتالية. لقد جاء إلى «سان تروبيه» ليحل ضيفا على صديقه رجل الأعمال الثري فرانسوا بينو، ذلك أن رؤساء فرنسا المتقاعدين لا ينهبون خزينة الدولة، وغالبا ما يحنون إلى إجازات باذخة يمضونها معتمدين على أريحية الأصدقاء. وفي السجل الذهبي للمقهى نقرأ عبارات تحية وشكر، ونرى تواقيع كل من بيكاسو، ماتيس، بول إيلوار، بوريس فيان، فرانسواز ساغان، جولييت غريكو، جاك نيكلسون، كلارك غيبل، كوليت، أيرول فلين، فانيسا بارادي، مايلز ديفيز، وطبعا شيراك.

بدأت حكاية هذا المقهى عام 1887 عندما افتتح الزوجان ماري ومارتان سينكييه دكانا لبيع الحلويات في البقعة المسماة «ساحة الأعشاب»، بين كنيسة البلدة ومينائها. وحقق الزوجان نجاحا بفضل نوع من عجينة السكر البيضاء المطاطة «نوغا»، وراح الزبائن يقصدونهما من القرى المجاورة لتذوقها. ومع السنوات توسع الدكان ورزق صاحباه ولدا وبنتا: أريستيد وإليزابيث. وكبرت البنت وتزوجت عام 1929، من رجل غريب على المنطقة يدعى كازيمير، وشهرته «بيبي كازي»، وسرعان ما تشارك الصهر مع الابن وافتتحا مقهى «سينكييه» ذا الشرفة المطلة على الميناء، وتخصصا في تقديم الحلويات مع القهوة بأنواعها. وكان سفراء الدول الكبرى وقناصلها يشدون الرحال من باريس إلى الجنوب ليجلسوا في «سينكييه» ويأخذون صورة تذكارية في شرفتها الحمراء.

ثم قامت الحرب العالمية الثانية وذهب توتو، ابن كازيمير، للقتال، وبعد عودته منها قرر توسيع المقهى ليضيف إليه مطعما يقدم كل المأكولات والمشروبات. لقد كانت أواسط خمسينات القرن الماضي حاسمة بالنسبة للمقهى وبلدة «سان تروبيه» كلها؛ فقد قصدها المخرج الشاب والصاعد، آنذاك، روجيه فاديم وصور فيها فيلمه الشهير «وخلق الله المرأة»، بطولة الممثلة المبتدئة بريجيت باردو التي تزوجها فيما بعد. وعرض الفيلم في مهرجان «كان» عام 1955، وأثار ضجة عالمية وأعاد وضع البلدة على خريطة السياحة في المنطقة، لا سيما بعد أن استقرت فيها باردو وتحولت الأسوار الخارجية لفيللاها «لا مادراغ» إلى مزار لعشاق السينما. وفيما بعد، مع صعود ظاهرة الممثل الكوميدي لويس دو فونيس، تم تصوير فيلم «شرطة سان تروبيه» في البلدة.

كان أريستيد، نجل سينكييه الوحيد، قد رزق بنتا تدعى مارينيت، تزوجت من لورد إنجليزي يكبرها بأربعة عقود، ثم انفصلت عنه لتتزوج فرانسيس جاكمان، الرجل الذي أدار المقهى والمطعم حتى عام 2000 قبل أن يسلمه لأحد أبناء الجيل الرابع من العائلة. إن قائمة الطعام ما زالت تقترح أصنافا من الحلويات التي كان الجدان المؤسسان قد ابتكراها، وبالأخص الشوكولاته المثلجة وفطيرة «لا تروبيزيين» التي استعارت اسمها من النساء المنتميات للبلدة. ومع مرور السنوات كان المقهى يزداد توسعا ويجدد أثاثه ومرافقه مع الحفاظ على ملامحه التاريخية.

قبل انطفاء القرن العشرين، كان المنتج الموسيقي إدي باركلي قد طبع «سان تروبيه» ببصمته من خلال الحفلات الأسطورية التي كان يقيمها في منزله، هناك، أو على رمال الشاطئ. وهي «سهرات بيضاء» لا بسبب طهرها، بل لأن صاحب الدعوة كان يشترط على المدعوين والمدعوات ارتداء الملابس البيضاء في سهراته. وقد سجل كتاب صدر حديثا للصحافي فرنك لوكلير وقائع تلك السنوات الذهبية من عمر المقهى والبلدة.

اليوم، ومع الأشعة الدافئة للموسم الصيفي الجديد، يستقبل «سينكييه» يوميا 3500 زبون يأخذون أماكنهم حول 188 طاولة في الشرفة و70 طاولة في الداخل. لقد أصبح اسم المقهى علامة مسجلة وارتبط بتاريخ البلدة وصار نقطة المواعيد فيها. ومن بين الندل العاملين فيه واحد يدعى رومان، هو حفيد الأصحاب الأوائل، وأول أبناء الجيل الخامس من العائلة.