قراءات نتائج مهرجان «كان».. وخفايا كيف ربح هينكه من قلة المتنافسين.. والسينما الأميركية تتحول إلى ديكور

يوميات «كان» السينمائي 2012 - 11

.ميشال هينكه وممثلاه
TT

«ليس هناك ما يحول دون خروج هذا الفيلم بجائزة السعفة».. كتبت في الفقرة الأخيرة من نقد فيلم «حب» وهو ما حدث بالفعل. لم يكن هناك بين الأفلام الـ22 التي اشتركت في مسابقة الدورة 65 هذا العام أي فيلم آخر يمكن حجب سطوع فيلم ميشال هينكه «حب» لا عن السعفة ولا عن البقاء في بال الكثير من النقاد كمرشح أول لها.

أقرب الأفلام إليه كان لا يزال بعيدا عنه، وهو «بعد التلال»، الفيلم الآتي من رومانيا الذي اكتفى بجائزتي السيناريو (وضعه مخرج الفيلم كريستيان مونجو) وبطلتاه كريستينا فلوتور وكوسمينا ستراتان.

أما الأفلام الـ20 الأخرى فهي إما حملت احتمالات بعيدة (مثل الفيلم الأوكراني «في الغيم» والفيلم الفرنسي - الياباني «كواحد في الحب»)، أو لم تحمل أي احتمالات جدية على الإطلاق (كالفيلم الألماني «الجنة: حب» والمصري «بعد الموقعة»).

على أن توقع فوز فيلم ميشال هينكه (وهو الثاني له على مستوى السعفة الذهبية بعد «الشريط الأبيض» سنة 2009) عكس ما يمكن اعتباره وضعا خاسرا من ناحية مقابلة. ذلك أن معرفة الرابح سلفا وعلى هذا التوقع الواسع، فرغ الدورة من عنصر المفاجأة. وهو عنصر كان دائما ما لعب دورا مهما في نجاحات الدورات السابقة.

بفوز هينكه مرة ثانية ينضم إلى بضعة مخرجين سبق لهم أن فازوا من قبل مرتين؛ من بينهم الياباني شوهاي إيمامورا والسويدي ألف سيوبيرغ، والأميركي فرنسيس فورد كوبولا، والبلجيكيان الأخوان داردين.

والحقيقة التي لا بد من ذكرها، أن الإحساس القوي الآخر الذي صاحب معظم الموجودين هو أن الأفلام المتسابقة في مجملها لم تكن بقوة الأفلام التي تنافست في الأعوام الـ3 الماضية. هذا الشعور تولد من مجموعة من الأفلام لم تستهو النقاد الذين هم معيار النجاح والفشل الرئيسي في دورات «كان» المتعاقبة. الممثلة إيزابيل هوبيرت لم تكن بعيدة مطلقا عندما قالت: «هناك احترام لا يقارن للسينما هنا».

الحال هو أن ما يصنع للمهرجان رواجه هو مجمل عناصر عليها أن تكون مجتمعة: تاريخ المهرجان وإنجازاته، والأفلام التي يستطيع استقطابها، والممثلون الذين يبثون هذا الوهج الكبير في كل مرة، والإعلام الذي يتساقط كرذاذ المطر فوق كل ما هو (ومن هو) في «كان» (نحو 4000 صحافي وناقد ومصور حضروا هذه الدورة).

لكن من يصنع نجاح الدورة وكل دورة هم النقاد، وهؤلاء أظهروا من الفتور ما يكفي لتحميل لجنة التحكيم مسؤولية كبيرة. صحيح أنها لجنة مستقلة تعمل بضوابط وقواعد تريد اعتبارها أكثر تخصصا واحترافا من القاعدة النقدية التي تحيط بتلك الأفلام، إلا أنها اختارت في معظم جوائزها نتائج متوازية لما رشحه معظم النقاد من البداية. ليس فقط بالنسبة لـ«حب»، بل أيضا بالنسبة لجوائز مهمة أخرى مثل جائزة أفضل ممثل التي ذهبت إلى الدنماركي المولد مادس ميكلسن عن بطولته لفيلم «الصيد»، ومثل جائزة لجنة التحكيم التي نالها البريطاني كن لوتش عن «حصة الملائكة».

لكن هذا لا ينفي تعارضا، فعدد الذين أعجبوا بفيلم «الصيد» لتوماس فنتربيرغ من النقاد هم أكثر بكثير من عدد الذين أعجبوا بفيلم «حقيقة» لماتيو غاروني الذي فاز بالجائزة الكبرى (الثانية قيمة بعد «السعفة الذهبية») والذين وجدوا أن كارلوس ريياغاداس لا يستحق جائزة أفضل مخرج (ومنهم من وجد أن فيلمه «بعد الظلام، ضوء» لم يكن ليستحق أن يعرض أصلا) هم أكثر ممن وافقوا عليه.

هنا يعزز الرأي القائل بأن التأثير الكبير لرئيس لجنة التحكيم، المخرج ناني موريتي، كان باديا. فهو من الذين يهوون الحديث عن الحب والعائلة وأواصر الربط بين أحياء العائلة وأمواتها، وهذا ما يدور حوله فيلم ميشال هينكه، وهو - من ناحية أخرى - إيطالي يهوى الأعمال القائمة على مشاريع غير كلاسيكية تزينها الروح الشبابية وهذا - إلى حد – السبب الذي تبنى فيه «حقيقة» لماتيو غاروني إلى جانب أن الفيلم إيطالي من بلد رئيس اللجنة ذاتها. ليس المقصود هنا أن إيطالية الجنسيتين كانت هي الدافع، لكنها عامل مقترح لا يمكن تجاهله.

إلى ذلك، هناك حقيقة أن خيبات الأمل من النوع الذي يتكرر كل سنة كانت موجودة بوفرة هذه السنة.

طبعا الفيلم الجديد للمخرج المخضرم يسري نصر الله، وعلى عكس ما تمناه البعض منا لدوافع عاطفية، لم ينل أي ذكر. وهذا كان متوقعا بشدة والفيلم لم ينل أي تقدير عال بين النقاد بل تراوحت آراؤهم بين الضعيف والمتوسط.

لكن من قال إن المخرج الإيراني عباس كياروستامي سيخرج من هذا المولد بلا حتى شهادة تقدير؟

عباس كياروستامي نوع مختلف من السينمائيين الإيرانيين، فهو طلق إيران من دون أن يكون خدش صفحة النظام المستبد فيها، وتزوج فرنسا من دون أن يكون الزوج الوحيد لها. سابقا، من أيام بونويل في الأربعينات، وفرنسا تستقطب طالبي الحرية واللاجئين من كل مكان. من العالم العربي كما من القارة اللاتينية، بل وحتى من الولايات المتحدة في زمن المكارثية (هاجر إليها جوول داسين وجوزيف لوزاي وتشارلي تشابلن أولا قبل انتقالهم إلى اليونان وبريطانيا وسويسرا على التوالي).

فيلم كياروستامي المقدم هنا تحت عنوان «كواحد في الحب» شطحة لا أهمية لها في تاريخ السينما، ولا هي فنية لكي تمثل خطوة إلى الأمام، ثم هي ليست ثقافية من حيث نجاحها في تجربة تحقيق كياروستامي لفيلم ياباني المكان والزمان ونسبة من الإنتاج. حين تبحث عن «يابانية» الهوية ستطالعك الملامح واللغة وحدها، أما الهوية الثقافية والاجتماعية فمفقودة. هذه القصة قد تقع في أي مكان من العالم فما الداعي لوقوعها في مدينة يابانية؟

ولو كان هذا هو الانحسار الوحيد في التجربة، لكان من الممكن المضي لذكر حسنات الفيلم، لكنها حسنات محدودة (ألوان المدينة منعكسة على زجاج السيارة جميل ولكن…). المهم أن النقاد ولجنة التحكيم كانوا متوازين هنا في اعتبار الفيلم عملا يمكن المرور به من دون أسف، خصوصا مع خروج بضعة أفلام نالت تقديرات أعلى وإن لم تنل جوائز ما من بينها مثلا فيلم ديفيد كروننبيرغ «كوزموبوليس» وفيلم «في الضباب» للأوكراني سيرغي لوزنتسا.