البتراء.. مدينة حجرية شهيرة تواجه عقبات في الحفاظ عليها

يتدفق عليها آلاف السياح يوميا ممن لا يدركون قواعد زيارة الموقع

الخزانة.. أشهر آثار البتراء ذات الطابقين بأعمدة مستوحاة من الطراز اليوناني
TT

تجولنا قرابة نصف ساعة في واد ضيق تلفه المنحدرات الضخمة التي اصطبغت بلون غروب الشمس، وكاد الفضول يقتلني. أين البتراء؟

وقلت مازحا لزملائي المسافرين إلى هذه المدينة القديمة الشرق أوسطية: «من الواضح أنها ذهبت في طي النسيان منذ وقت طويل».

وأخيرا، درنا حول صخرة ضخمة، لنشاهد أشهر آثار البتراء، الخزانة، هذه الواجهة ذات الطابقين بأعمدة مستوحاة من الطراز اليوناني، هي أول ما تراه عندما تصل إلى نهاية الوادي. ويعرفها هواة السينما بأنه المعبد التي وجد فيها هاريسون فورد الكأس المقدسة في فيلم «إنديانا جونز والحملة الأخيرة».

ومنذ أن شاهدت إنديانا يبتعد عن الصرح المنحوت في الصخور، كنت أرغب في أن أرى ذلك الصرح عن قرب. حيث يشكل العام الحالي 2012، الاحتفالية بالذكرى المائتين لاكتشاف العالم السويسري جون لودويغ بروكهادت البتراء في عام 1812. قضيت يومين ونصف في المدينة (جزء من جولة استمرت تسعة أيام مع شركة «إكسودس» البريطانية) ونويت استغلال كل ثانية من هذه المهمة.

كانت مدينة البتراء (مأخوذة من الكلمة اليونانية التي تعني صخرة) عاصمة دينية لمملكة الأنباط، الحضارة القديمة التي حكمت الأردن في السابق. بنى تجار التوابل الأثرياء البتراء على أنه مجمع ضخم للآثار والقبور والأسواق بدءا من القرن السادس قبل الميلاد. في أوج عصرها، كانت البتراء مفترق طرق عالمية، ومكانا تتوقف فيه قوافل الجمال المحملة بالبخور والبضائع الأخرى لبيع.

حتى الآن، كان الوقوف أمام الخزانة في يوم مشمس لطيف في عيد الحب، يجعل من السهل استحضار مثل هذا المشهد.. صوت وقع حوافر الخيل، وسروج الجمال زاهية الألوان وطوفان من السكان المحليين يهبطون عن الجدران الصخرية الضخمة والسياح يحدقون في الخزانة (على عكس ما حدث في «إنديانا جونز»، لم تكن الخزانة بها متاهة من الغرف؛ مجرد استراحة ضحلة ومقبرة ملكية لا تفتح للعامة).

عند هبوط الطريق الرئيسي لمدينة البتراء، أو «العمود الفقري»، دخلت منطقة جبال مفتوحة بشكل أكبر تتسم بالكهوف الضخمة، وموطن أغلب القبائل البدوية الخمس التي كانت تقيم في مدينة البتراء حتى عام 1985، ثم تحولت البتراء إلى موقع للتراث العالمي وكان على العديد من البدو الانتقال إلى القرى الصغيرة التي بنتها الحكومة المطلة على البتراء التي تسمى «أم سيهون». بيد أن البعض رفضوا ولا يزالون يعيشون في كهوف البتراء.

كانت تنتشر على أعلى المنحدرات من حولي المداخل المقوسة التي تؤدي إلى المقابر الملكية المنحوتة بحرفية عالية. كان البدو الموجودون في الموقع يحاولون حملي على ركوب الحمار والجمل والحصان وهم يصيحون بعبارات مثل: «تجربة رائعة في (فيراري) بدوية».

لكن على الرغم من ذلك، فإن البتراء تحتفظ بكثير من روحها، إلا أن عملية الحفاظ عليها ترتكز على أرض غير صلبة.

نحت الأنباط البتراء في الحجر الرملي، تلك الصخور الناعمة التي يسهل تدميرها بسبب الرياح والأمطار والزلازل والفيضانات. وقد تدهور كثير من الآثار الأكثر تعرضا لهذه العناصر مثل المقابر الملكية، بالفعل إلى حد كبير. فقد كان نظام المياه البارع لهذه الحضارة التي حولت مياه الفيضانات التي تتدفق بانتظام عبر الوادي، في حالة سيئة للغاية..

علاوة على ذلك، هناك الآلاف من الأفراد الذين يعيشون ويعملون ويزورون البتراء بصورة يومية والذين يلقون الكثير من الضغوط على الموقع. وفي عام 2007 أدى استطلاع عالمي للرأي باسم «البتراء واحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة، إلى تدفق السياح الجدد، الذين وصل عددهم إلى 2.500 سائح يوميا، كان الكثير منهم غير مدركين قواعد الزيارة في الموقع.

جرّف السكان المحليون أيضا أجزاء من الموقع، وكان الأطفال في بعض الأحيان يكسرون قطعا من الصخور الملونة لبيعها للسياح أو الصعود على الآثار الهشة والأضرحة الدينية. الأكثر من ذلك، أن حيوانات البدو تقوض الأدراج الحجرية والممرات تاركة النفايات التي تدمر الصخر الرملي، التي ترعى في المناطق الخضراء في المتنزه. ربما يكون هناك بعض التهديدات غير المعروفة؛ لا أحد يعرف على سبيل المثال، سواء أكانت ذبذبات عربات الخيول التي تهز الوادي، أو أصوات المولدات ومصادر الطاقة الرئيسية في الموقع، والتي يمكن أن تؤثر على الصخور غير المستقرة.

ويقول عماد حجازين، مدير موقع البتراء للآثار: «هذه مشكلة، كيف يمكن الموازنة بين مصالح السكان المحليين وتقديم تجربة لا تنسى بالنسبة لسياحنا وحماية الموقع». كنا نرشف القهوة التركية في مكتبه في مدخل البتراء الرئيسي، وأقول بصراحة: «إنها وظيفة صعبة».

وتخصص الهيئة الإقليمية للسياحة وتطوير البتراء، التي تشرف على منطقة البتراء والمنطقة المعمارية، 10 في المائة من كل رسم دخول الذي يصل إلى 50 دينارا أو نحو 70 دولارا، للحفاظ على آثار البتراء.

لكن الهيئة ترغب في الوصول إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث ترمي الخطة الجديدة للسياحة والحفاظ على الموقع إلى إحداث تغيير جذري في كيفية عمل البتراء. وجزء من الرؤية الجديدة تشغيل حافلات تعمل بالبنزين النظيف لتقل السائحين خارج الموقع عبر طريق متعرج بالقرب من قمة الجبل الرئيسي حيث ينهي غالبية الأفراد زيارتهم. وإذا ما وافقت اليونيسكو، ستقل الحافلات السائحين المرهقين للخروج عبر الوادي، وقال حجازين إنها ستعمل في الوقت الراهن فقط في الدخول والخروج من البتراء.

كما ستنقل منشأة الطاقة الشمسية التي تمولها شركة «ميتسوبيشي» فوق البتراء، الطاقة الكهربائية إلى الموقع لتحل محل المولدات التي تدار بالديزل. أما مركز الزائرين الذي تم ترميمه، فسيتم تحويله إلى مركز للترجمة ونظام إصدار تذاكر محددة بوقت التي ستنظم الزائرين خلال اليوم للتغلب على الزحام في الموقع.

وتعد إدارة الموقع لإصدار كتيبات بلغات عدة بشأن كيفية حماية البتراء، وسيتم توزيع هذه الكتيبات على مرشدي الموقع الـ150. وسوف يعرض مركز الزيارة الذي تم تجديده قائمة من الواجبات التي ينبغي الالتزام بها مثل البقاء على مسار محدد وعدم اصطحاب أي قطع فخارية أو نباتات من الموقع.

وقد سألت دليلي في الزيارة من شركة «إكسودس»، داني حداد، عن رأيه بشأن هشاشة البتراء، قال حداد: «ليس هناك أثر خالد»، وعبر عن اعتقاده بأن «على الحكومة أن تسمح لأكبر قدر من الأفراد بزيارة الموقع. وفي النهاية إذا ما حدث زلزال فسوف تزول البتراء».

ويحتفظ بعض البدو الذين التقيت بهم بفلسفة مماثلة، فيقول عطا الله علي، بائع مجوهرات بدوي، إن الأثر بني قبل آلاف السنين ولا يزال قائما. والأهم من ذلك أن نسبة 85 في المائة من البتراء لم يتم استكشافها بعد، ومن ثم لا تزال هذه النسبة بعيدة عن التهديدات أو العوامل الطبيعية أو الإنسانية.

ربما تعلم أيسر عقراوي، التي تعمل منذ فترة طويلة رئيسة للجمعية الوطنية للمحافظة على البتراء، الكثير بشأن الأخطار التي تواجه البتراء، أكثر من أي شخص آخر. وقد أعددت للقائها في مدخل البتراء، وبعد أيام من التواصل كانت المفاجأة أن أجد نفسي أمام سيدة ضئيلة الحجم تزينت من رأسها إلى أخمص قدميها باللون البنفسجي.

بدأنا في التجوال عبر السوق، وعلى الرغم من كون تلك الزيارة الثالثة لي للممر الضيق، فإنني رأيته بعيون جديدة. أشارت لي عقراوي إلى السدود الصخرية وأنظمة تصريف المياه المتداخلة، والبنية التحتية النبطية التي ساعدت جمعية المحافظة على البتراء وشركاؤها في ترميمها.

وقد أظهرت لي عقراوي شقوقا طويلة في حوائط الوادي، التي تتشكل عندما تمتص الصخور مياه الأمطار، التي تمتص الملح معها. سقوط الصخور مثار قلق دائم، ففي عام سقطت صخرة في السوق، ولحسن الحظ أنه لم يكن أحد موجودا في المكان نفسه. كما حدث انهياران صخريان كبيران في عام 2011؛ أحدهما في منطقة يرتادها السياح. وتشارك الجمعية الوطنية للدفاع عن البتراء في دراسة لتحديد الصخور الأكثر عرضة للانهيار التي يمكن تثبيتها في مكانها. كما تشارك المنظمة أيضا في برنامج «الحارس الصغير»، الذي يتيح للأطفال في المنطقة معرفة الملامح المختلفة للبتراء بدءا من الجيولوجيا وحتى التاريخ. وتقول عقراوي: «إذا حافظنا على هذا المشروع، فسوف نربي في وقت قصير جيلا يتحدث لغة حماية المكان».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»