الفنان التلسغاني يرصد تحولات المدينة الحمراء

في معرض «شذرات صور عاشقة لمراكش»

يضغط الفنان الفوتوغرافي نور الدين التلسغاني على زر آلته المصورة قبل أن تقطع الدراجة الهوائية الخط الفاصل بين الظل والضوء في الشارع («الشرق الأوسط»)
TT

تحولت مراكش، في السنوات الأخيرة، إلى علامة وعنوان للتناول، من مختلف الزوايا والأفراد: كل واحد يحاول أن يكتبها بحساسيته، أو يفهمها ويعيشها على طريقته. وقد ظلت الصورة، في كل هذا، وسيلة ترافق تسويق المدينة الحمراء وتناولها، قبل أن تتحول إلى شكل مستقل بذاته يحاول أن يقرأ المدينة وتحولاتها من زاوية فنية وتعبيرية خالصة، تختلف حسب عين ملتقطها، وفي هذا السياق يمكن القول إن «شذرات صور عاشقة لمراكش»، وهو عنوان المعرض الذي نظمه الفنان الفوتوغرافي نور الدين التلسغاني، يدخل في هذا الإطار.

اشتمل المعرض، الذي احتضنه مركز «المزار» في مراكش، على 32 صورة، بعضها بالأبيض والأسود وبعضها بالألوان، اشتغل عليها التلسغاني وفق رؤية إخراجية، قوامها النظرة الرأسية من أعلى، لتحقيق جمالية احتواء جماع عناصر الصورة، وتحاشي تواري العناصر وراء بعضها البعض.

وكتب الكاتب والمخرج إبراهيم هنائي، في تقديم الفنان ومعرضه، أن التلسغاني يرفع التحدي من خلال التقاطه لشظايا صور عاشقة لمراكش، مقدما رؤية جديدة لها: رؤية فيها طراوة لرجال المدينة، أشيائها، روائحها، أمزجتها، ألوانها وضجيجها. مشيرا إلى أن تلك الرؤية عشق، يذكرنا، من خلاله الفنان، ببداهة مفادها أنه يجب علينا أن نتعلم من جديد رؤية ما نعشق.

وقال التلسغاني لـ«الشرق الأوسط»: إنه «بحث عن صور تذكره بطفولته في المدينة القديمة، فلم يوفق في العثور على مراكش كما عرفها وعاشها في صغره»، مميزا، في حديثه، بين التصوير الذي يقوم به مغاربة وذاك الذي يقوم به الأجانب، في مراكش، حيث قال: «أنا ضد تصوير البؤس. الفنان الأجنبي، غالبا ما يأتي لاقتناص العجائبي والجمالي في المدينة. أما أنا فأبحث عن حقيقة الأصل وعمق الأشياء، مقارنا بين كيف أحس المدينة، اليوم، وكيف عشتها، في طفولتي».

وشدد التلسغاني على أنه لم يعمل روبورتاجا عن مراكش وناسها، بل قدم صورا فنية تلائم بين الجمالي والعمق الفني، مشيرا إلى أنه حاول أن يرصد سؤال التناغم بين الأصالة والمعاصرة في تحولات المدينة الحمراء.

ولم يخف التلسغاني حقيقة أنه صار يفتقد المدينة الحمراء كما عاشها في طفولته، قبل أن يختم حديثه، في صيغة تعجب وأسى، قائلا: «افتقدت، بشكل خاص، طقوس الأعياد والمناسبات العائلية ودفء الجيران. اليوم صار 80% من جيراني أجانب، لا أعرف حتى اللغة التي يكون علي أن أوجه بها إليهم تحية الصباح».

من جهته، قال الناقد والقاص محمد اشويكة، لـ«الشرق الأوسط»: «إن التلسغاني يشتغل على الصورة بحس ورؤية أساسها جمالي خالص، فهو المصارع لسرعة الغيوم حين تريد أن تحجب الضوء عن بقعة دائرية صغيرة من الجبل؛ وهو الضاغط على زر آلته المصورة قبل أن تقطع دراجة بائع الخبز الهوائية الخط الفاصل بين الظل والضوء في الشارع، وهو الفارز للون الأصفر فوق رأس رجل يختلي بنفسه في لحظة تأمل خاصة، أو الرجل الماشي، الحامل للحياة في كيسه الأصفر القابع فوق ظهره؛ وهو الراصد لالتئام الإبهام والسبابة والوسطى حول قلم خشبي يخط حروفه السوداء الأولى على لوح الحياة. لا شيء يموت بعد تصويره. وحده الإحساس يتغير تجاه ما يتم تصويره».

ورأى الناقد والقاص أنيس الرافعي أن تجربة التلسغاني مسكونة بنوستالجيا العين الرائية، التي تروم استعادة ما هو آيل للزوال أو في طور التلاشي داخل المدينة العتيقة، من وجوه وأجساد وملابس وعادات وتقاليد ووسائل نقل، مبرزا أن «كل صورة تلازمها دوامات الحنين وشجن الذكرى، ولها القدرة على تسجيل لحظة من لحظات الماضي، عبر حنين يحاول أن يستعيد ما اندثر من المدينة العتيقة لمراكش».

وتابع الرافعي، يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن عدسة التلسغاني «انتقلت مما هو جمالي محض إلى ما هو بحثي خالص»، أي من هواية «الاقتناص» إلى حرفة «القصدية»، مشيرا إلى أن الفنان لا يسعى، في أعماله، إلى تقديم رؤية «إكزوتيكية» للمدينة الحمراء، وإنما لاسترجاع النادر ودق ناقوس الخطر بصدد تعرضه للانمساخ والفوات، «كما لو أنه اكتشف بغتة بداخله مدينة منسية بأكملها، وود أن يحفظ شيئا من التحولات التي طالتها بعد أن مر عليها الزمن، وداسها بأقدامه الثقيلة والقاسية»، مبرزا أن الفنان «اعتمد رؤية إخراجية قوامها النظرة الرأسية من أعلى، مما أتاح إمكانية تحقيق جمالية احتواء جماع عناصر الصورة، وتحاشي تواري العناصر وراء بعضها البعض». وهي رؤية تجد، حسب الرافعي، جذرا ومرجعا لا واعيا لها في طفولة الفنان، وفي ذاكرته القصية التي اختزنت ولع قاطني الدور الأصيلة والرياضات القديمة في المراقبة والتلصص على الغدو والرواح من أعلى السطوح والشرفات، ومن خلل الكوى والمشربيات.

ورأى الرافعي أن التلسغاني انتهج، من الناحية التقنية، مبدأي «المحو» و«المفارقة»، بين الحركة والثبات، من جهة، وبين العتمة الطاغية والنور الوهاج، من جهة أخرى، بغرض تبئير الموضوع المصور، وتركيز الحدقة عليه، مع تدعيم هذا التركيز بمعطيات هندسية وجيومترية عمدية على شكل خطوط أحادية ومتوازية، أو علامات مخصصة لممرات الراجلين، أو تعاكسات في الاتجاهات.

وختم الرافعي، بالتشديد على أن التلسغاني استطاع، من خلال معرضه الجديد، أن يحقق «نقلة فلسفية مهمة في انفتاح المعنى الفوتوغرافي على أنسنة الخراب الذي تخلفه تصاريف الزمن».