تحويل الأثاث العادي إلى قطع فنية عبر استيحاء التصاميم الشرقية والعربية

بمعرض الفنان السويسري آندريه ميارهانز في «توبي آرتس» بدبي

TT

يبدو أن قطع الأثاث التي نقتنيها بأموال طائلة وتعيش معنا ردحا من الزمن، فقدت بريقها بعد عمليات التصنيع الحديثة حيث التشابه والرتابة وفقدان اللمسة الشخصية.. إلا أن الفنان السويسري آندريه ميارهانز يعيد لها في معرضه في غاليري «توبي آرتس» بدبي، الذي اختتم هذا الأسبوع، ألقها المفقود وطابعها الإبداعي ونكهتها الشخصية. انتقل الفنان السويسري من الهندسة المعمارية إلى تصنيع الأثاث الفني، كما يقول لـ«الشرق الأوسط»: «لماذا لا نصنع من الأثاث الذي يرافقنا جمالا وشكلا أنيقا إذا كان ذلك متاحا لنا، فيمكن للأثاث أن يجمع بين المفيد والفني في آن واحد؟»، وهو يمزج ببراعة بين الهندسة المعمارية وفن الأثاث: «إن التصميم عملية تجمع بين الهندسة المعمارية والفن والأثاث. ومعظم الأعمال الفنية انطلقت من مفاهيم الهندسة المعمارية. فالأثاث والمجوهرات تتطور بشكل صغير، وسرعان ما تعد إلى الهندسة المعمارية، والعكس بالعكس». يجمع الفنان بين قطع الأثاث والهندسة المعمارية، وديكورات المنزل، إلا أنه يمنح الحياة اليومية جمالا استثنائيا من خلال خلق وتركيب أشكال جديدة. اليومي يتحول إلى فن زاخر بالألوان والأشكال من خلال منح أثاثه الألوان الأصفر والأحمر والأخضر الفاتح لأنها تناسب روح العصر.

فهو لا يكتفي بتحويل الأثاث إلى فن، بل كذلك يصمم المجوهرات بما يطلق عليه «المجوهرات الفنية». واعتبر المصمم السويسري، أن هذه القطع لا يمكن تصنيفها في خانة المجوهرات، وإنما في خانة المجوهرات الفنية، التي تحمل الكثير من العمل. وتتألف المجموعة التي قدمها في هذا المعرض من أقراط وسوارات وعقد وخاتم إلى جانب أزرار القمصان للرجل. وهي مجموعة من القطع المحفورة من الألمنيوم والـ«استانليس ستيل»، إلى جانب مجموعة خاصة من المجوهرات، مصاغة من الفضة بطريقة هندسية. وهي تجسيد للفن الثلاثي الأبعاد، مع استخدام الألوان فيها، وتظهر على شكل مجوهرات فنية وليست عادية. يقول بهذا الصدد: «الخلفية الهندسية التي أتمتع بها هي التي تجعل عملي يتحدد كثيرا تبعا للمادة، ولهذا غالبا ما أميل إلى استخدام مواد معينة دون الأخرى، ومنها الألمنيوم أو حتى الـ(استانليس ستيل)، التي أتعمد قولبتها بأسلوب عملي، يجعلها قطعا لها جماليات، وفي الوقت عينه استخدامات». ويفضل الفنان أن يصنع أثاثه الفني من الألمنيوم والحديد «لأسباب أربعة: جمالية التصنيع، والاختيارات التي تتيحها هذه المواد، والاستمرارية، وتوفر المصنعين في دبي». ويضيف أن كون الفنان السويسري مهندسا معماريا، فهو الأقرب إلى الأشكال والتصاميم من خلال الربط بين الأثاث والفن، يقول الفنان السويسري: «إنني لا أعمل أثاثا فقط؛ بل أضفي عليه الكثير من الفن».

ثمة صروح معمارية تحمل اسمه في دبي؛ حيث قام ميارهانز بتصميم مشاريع عدة فازت بجوائز عالمية من بينها «جسر القرهود» الجديد في دبي الذي حاز جائزة «ميد» المرموقة. ويعمل آندريه حاليا على إبداع معماري عبقري آخر وهو برج النادي في أبوظبي، وهو عبارة عن منارة كاشفة. ولكن تصميم الأثاث والديكورات الداخلية أخذه إلى شواطئه المبدعة.

في الواقع، إن أشكال التصميم وقطع الأثاث لم تكن تجد طريقها في دبي إلى العرض إلا بعد إقامة المعرض الأول للتصاميم وكذلك التأسيس الحديث لغاليري «توبي آرتس» الذي أسسته حديثا الشيخة لولو الصباح، صاحبة شركة «جام» للمزادات الفنية في الشرق الأوسط، وهي تقدم الأشكال الفنية كافة من أزياء إلى أثاث إلى صور فوتوغرافية وغيرها. تقول الشيخة لولو الصباح لـ«الشرق الأوسط» بوصفها ناقدة فنية أيضا: «نحن متحمسون جدا لعرض أعمال الفنان آندريه ميارهانز لأن إنجازاته المبتكرة والمعاصرة تدمج المبادئ الغربية للتصاميم مع الأنماط المستوحاة من الأسلوب الشرقي، بدءا من الأثاث المعاصر ذي الطابع المحدد، وصولا إلى الأعمال الفنية والمجوهرات، فيتميز عمله بالارتقاء بالتصميم إلى أعلى درجات الكمال من خلال ترجمته للمفهوم الشرقي والغربي في فن التصاميم الذي أصبح جزءا من نمط حياتنا الحالية».

عاش المعماري السويسري آندريه ميارهانز سنوات عديدة في دبي، وعمل مع عدد من الرموز المعمارية، وأعجب بأعمالهم وطور عددا من التصاميم لكل من الماركات الشهيرة: «كارتييه» و«لاكروا» وغيرهما. وعن فنانه المفضل يقول ميارهانز: «إنني معجب بالمهندس المعماري الإيطالي كارلو سكاربا لمفهومه الخاص عن المواد والألوان، وتعامله مع الضوء والظل والمكان بطريقة شعرية. وكذلك المهندس المعماري الإسباني سانتياغو كالاترافا لأفقه المفتوح على جميع الفنون، والمهندس المعماري الهندي أنيش كابور والبريطاني روس لوفرغروف لخروجهما من التيار التقليدي. وكل واحد من هؤلاء أضافوا لي شيئا من إبداعاتهم».

وعن سبب اختياره دبي، يقول الفنان السويسري: «لقد عشت في عدد من البلدان العربية مثل سوريا والأردن ولبنان تركيا، وبالنسبة لي بصفتي مهندسا معماريا، كانت دبي لا تزال مغرية، إلا أنني لم أكتف بوظيفتي لأن أمواج الفن جرفتني.. ولعل المعرض الذي نظم في دبي مؤخرا أضفى قيمة كبيرة على هذا الفن، وبدأت صالات العرض تقدمه. ومدينة دبي تذكرني بشنغهاي في نهضتها المعمارية والفنية. كنت أرغب في تجريب بلد يشهد نهضة اقتصادية كبيرة، وبذلك تحمست لأن أكون جزءا من هذه الرؤية العظيمة بما أمتلك من طاقة فنية في هذا المكان الاستثنائي بالنسبة لجميع الفنانين». ويضيف الفنان: «أعتقد أن الرحلات والأسفار هي منبع الاستيحاء الفني، وتصاميمي جميعها مستوحاة من الشرق العربي مرورا بآسيا الوسطى وإسبانيا والأندلس على وجه الخصوص».

تتراوح ابتكارات ميارهانز الفنية بين خرائط مدنية تشمل مساحة 250 ألف متر مربع، وتطوير متعدد الاستخدامات بقيمة مليار دولار وتصاميم للأثاث، فضلا عن إنجازات في مجال الفن والمجوهرات. ويركز الفنان على تطوير تصاميمه متأثرا بالدراسات الأكاديمية التي تعبر عن تركيب يجمع بين الأشياء والفن والهندسة؛ إذ يقول في هذا الصدد: «الأعمال الفنية التي أبتكرها تمثل جزءا من دراسة أوسع تهدف إلى تطوير لغة تصميم معاصرة في منطقة الشرق الأوسط. وتركز المقاربة على تحليل العناصر الهندسية والمبادئ التي تقوم عليها؛ فمن خلال المزج بين السمات التاريخية والمعاصرة تنشأ لغة تصميم جديدة متجذرة محليا».

ويحتل عمل «مكعب المشربية» مركزا بارزا ضمن المعرض، وهو عبارة عن بنية هندسية، تتميز بنمط ديناميكي ولكنه غير نظامي. ويتبع الترتيب مبدأ الخط الكوفي الذي يشبه أسلوبا مبكرا للخط الإسلامي. كما أن «مكعب المشربية» عمل فني مزود بإنارة، يبعث بصورة لظلال ملحوظة ومدهشة. أما اللون الأرجواني على مستوى المساحة الداخلية فيوحي بالألوان الوطنية للإمارات الشابة التي تبدو نقية ومنفتحة ومبهجة.

أما مجموعة المجوهرات المعروضة، فتستكشف خصوبة وغنى الأنماط المتعامدة. وفي حين تتخذ بعض الابتكارات أشكال ترتيبات عشوائية، يجمع بعضها الآخر عناصر جمة، فيولد تركيبة أشمل وأوسع. وتوحي القطع الهندسية بمذهب التكعيبية في حين أن الأنماط التقليدية تميز نفسها بوضوح عن أي من تلك المراجع.

ويكمن إبداعه في تصميم تراكيب وأشكال فنية تعكس التاريخ والثقافة وغناهما في المنطقة. وهو يطمح إلى إيجاد شكل يلائم المجتمع الخليجي. وهو يؤمن بأن العنصر التاريخي يمكن أن يكون انطلاقة للحياة الحديثة. والفنان مولع بالمزج بين الماضي والحاضر في أشكاله وتصاميمه الفنية. على سبيل المثال؛ فقد صمم فيللات على مبدأ المشربية المتكونة من الخشب بإطار حديث، معتمدا في تصاميمه على الفكرة التقليدية. وكما يقول: «لطالما تأثرت بوالت ديزني، لأنه استطاع أن يحول أحلامه إلى حقيقة، بفضل خياله الخصب». ويسعى الفنان إلى موازنة أعماله وتصاميمه من خلال الجمع بين التقاليد والوعي بالبيئة والحداثة. ولعل تأثره بالشرق جاء من خلال زياراته العديدة إلى بلدان مثل تركيا، سوريا، الأردن والمغرب في طفولته، مما خلق لديه الذائقة الشرقية المنفتحة على آفاق واسعة. يقول الفنان: «إنني ابن القرن الواحد العشرون، فمن الصعب أن أستوحي مواد منذ مائتي عام مضت. من الضروري أن يعرف الفنان من أين يستوحي». وعن تأثير الفن العربي على أعماله، يقول: «من الطبيعي أن يؤثر الفن العربي علي لأنني أعيش في الإمارات منذ عشرة أعوام. وباعتباري أجنبيا، فإنني أرى في دبي ما لا يراه أهلها ربما. ويمكنني أن أتعلم من الهندسة المعمارية العربية لأن الإسلام شجع على الأشكال الهندسية منذ مئات السنين حيث جمع روائع الأشكال الهندسية في حضارته». في تصاميمه وأشكاله سواء في الأثاث أو المجوهرات، يقدم الفنان آندريه ميارهانز فلسفته الخاصة التي يوجزها بقوله: «كل تصميم له معنى في نظري، وأتمنى على الآخرين وعلى نفسي أيضا أن أرى الرسم والفن الإبداع بعيدا عن إطار اللوحة؛ بل في الأشياء العادية التي نعيش معها».