هيلين سيبرا في غاليري لوزانج.. هكذا يكون المعرض الأول

المطلع على لوحاتها يعبر إلى عوالم غير تقليدية

من أعمال الفنانة هيلين سيبرا
TT

ربما، ليست صدفة أن يكون المعرض الأول لهيلين سيبرا، بهذا الزخم. الفنانة التشكيلية الشابة لا تقدم عملا عبقريا بقدر ما تقدم حساسيتها المفرطة تجاه اللون وامتزاجه بغيره من الألوان، وعلاقته بالنار والضوء ونوبات الحرارة، التي، في مكان ما في هذا العالم، كانت تلهج برأس كافكا، وتأكل الكوابيس بمخيلته. لوحات سيبرا الأولى تصلنا إلى هنا، إلى عالم يتشكل رويدا رويدا من كتل كابوسية من الدمار الذي يزين صدر الأرض، ويذهب بعيدا في إمعانه بحق البشرية.

قلة من المعارض الأولى تكون على هذا النحو. التجريب، بما هو واقع الحركة التشكيلية المعاصرة، كما في فرنسا، كذلك في كل أنحاء العالم، لا يترك أمام الفنان الذي يبتدئ حياته المهنية والاحترافية هامشا كبيرا للعب والابتكار. فالتغلب على الأعمال المكرسة أو حتى الهروب من عدم التشابه معها، يجعل مهمة التجريب، خاصة قبل التكريس، من أصعب مهام المغامرين الجدد بالدخول في عالم الفن التشكيلي. فهذا العالم، الذي يحتاج الدخول إليه ومن بعد ذلك المكوث فيه، إلى الكثير من الوقت. لا تمنح هذه الإقامة إلا لمن يتمكن من اجتياز الامتحان الأول بنجاح، أن ينقل مشاهده من مجرد الرؤية العادية للألوان، التي عادة ما تكون مبهرة، إلى مخاطبتها خطابا يتراوح بين متانة العقل والذوبان المرضي، بالحوار مع كائنات لا تتحدث. كل لوحة لا تفعل ذلك، لا يمكن اعتبارها جزءا من تاريخ الحركة التشكيلية العالمية.

على هذا النحو، تدخل سيبرا في معرضها الأول عالم الاحتراف والمكوث طويلا في الحركة التشكيلية الفرنسية. شابة موهوبة، تشتغل على حساسيات القراءة اللونية، ما يتيح للمطلع على لوحاتها، العبور إلى عوالم، حتى الأدب لم يشهد مثيلا لها منذ بدايات القرن السابق. فالعلاقة الذهنية بالعالم التي تنجز اللوحة عند سيبرا من خلالها، علاقة لم تعد موجودة إلا فيما ندر من خلال نصوص نثرية قصيرة ومتفرقة لكتاب يمكثون بعيدا عن هذا العالم. العالم الصناعي الذي حول الميكانيزم البشرية إلى آلة تتحرك من خلال معطيات ثابتة لا تتغير، في حين أن بعض من هم على شاكلة سيبرا يعيشون بالعقل، الكميات الهائلة من المخيلة ومن الأحلام والكوابيس التي ما يزال يمكن للعقل أن يضخها ويفرزها، لا تزال، عند قلة، قادرة على إدهاش العالم الآلي.

تعمل سيبرا على مقاربات لونية، هذيانية، تؤسس بمتانة للغة جديدة في الجملة التشكيلية المعاصرة أوروبيا، حتى لو كان ذلك، من خلال العمل على لوحة، أقرب إلى الكلاسيكية التعبيرية منها إلى الفنون المعاصرة, التي غزت العالم بأفكار مأخوذة بغالبيتها من عالم الآلة. فالعلاقة الذهنية بين العقل واللون بواسطة الريشة، وهي العلاقة التي تتم بهدوء مبالغ فيه في العادة، بعيدا عن ضوضاء الآلات، تنم عن طاقة بحثية تستهلك العقل البشري ومخيلته وتقنياته، إلى جانب التقنيات الحرفية لاستخدام اللون، من أجل التوصل إلى عمل أقرب إلى محاكاة العالم الهذياني الذي تؤلفه الكوابيس التي تقذف في العقل وفي الجسد حمما بركانية.

على هذا النحو، تظهر لدى القراءة المتمعنة في لوحات سيبرا، عوالم كابوسية لطالما كانت سببا في خلق اللوحة، كما في خلق أهم الأعمال الأدبية على مستوى التاريخ. فالهذيان الكابوسي، أو كما يطلق عليه باشلار الانصهار بالعقل الباطن للعمل الأدبي (كان يقصد الأعمال الشعرية) الذي تتبعه سيبرا بفهم عميق لونيا، لا يرفع فقط من قيمة اللوحة أو يخفض من قيمتها، لكنه، والحال هذه، يقيم حوارا حقيقيا مع المتلقي، لكنه حوار يقوم على اللغز، وكذا يقوم على قدرة هذا المتلقي على القراءة بما يتجاوز الإعجاب الظاهري بالألوان. هذا الجانب في أعمال سيبرا يستهدف متلقيا خبيرا في قراءة الأدب كما في قراءة الفن التشكيلي، متلقيا قادرا على إقامة علاقات تربط ما بين الفن والأدب تصل في النهاية إلى خاتمة واضحة. لكنه في جانب آخر منه ضد السوق، أي ضد الفن الذي يسوق لنفسه كمادة للتزيين فقط. فسيبرا التي تصل في لوحتها إلى هذا الحد في استخدام التقنيات لخدمة العقل الباطن وما يعتور فيه، بالتأكيد قادرة على اختراق السوق بأعمال لا تستهلك الاحتراق الذهني ولا تستلزم كل هذه التقنيات. لكن في الأمر، هنا، خيار وقدرة على السير في هذا الخيار حتى النهاية، ربما، مع صعوبة ذلك، على الأقل، في عالم الفن التشكيلي الذي يحتاج إلى جلد وصبر رهيبين وقدرات هائلة على التحمل.

هكذا هو المعرض الأول لهيلين سيبرا، وهكذا تكون المعارض الأولى. أما ما سيحمله لنا المستقبل من أعمال لهذه الفنانة فهو كفيل بحملنا على ترسيخ هذه القناعة التي أمنها لنا هذا المعرض الأول، الذي على الأرجح لن يكون الأخير.