مقهى «لي دو ماغو» الباريسي.. يمنح جائزته الأدبية ويجذب كل مثقفي العالم إلى طاولاته

كتب سارتر فيه «الوجود والعدم».. وأصدر بريتون بيانه السريالي.. وانطلق منه الوجوديون

مقهى «لي دو ماغو»
TT

مقهى ليس كبقية المقاهي، يحمل تاريخا أدبيا حافلا ولا تزال أرواح كبار الكتاب والأدباء تعيش بين جدرانه، اسمه «لي دو ماغو» الذي يشير إلى التمثالين الصينيين الصغيرين اللذين يزينان المقهى.

في عام 1933 كانت مجموعة من السرياليين الشباب يجلسون على رصيف هذا المقهى، وعندما علموا بتوزيع جائزة الغونكور الأدبية الفرنسية الرفيعة إلى أندريه مالرو عن روايته الشهيرة «الوضع البشري»، اعتبروها جائزة أكاديمية وتقليدية، فقاموا بتأسيس جائزة أدبية باسم مقهى «لي دو ماغو». ومن هنا ولدت أسطورة هذا المقهى، وبدأ الأدباء والفنانون يترددون عليه أمثال إلزا تريوليه، ومن لا يعرف إلزا وعيونها وعشق الشاعر آراغون لهما والذي كان السبب في أن يكتب مجموعته الشعرية الشهيرة «عيون إلزا». وكذلك أندريه جيد، وجان جيرودو، وبيكاسو، وفرناند ليجيه، وجاك بريفير، وهمنغواي، وسارتر، وسيمون دي بوفوار، وألبير كامو. كتب سارتر فيه «الوجود والعدم»، وأصدر بريتون بيانه السريالي، وانطلق منه الوجوديون. كما اعتاد كل من فيرلين ورامبو ومالارميه الالتقاء فيه.

يعتبر «لي دو ماغو» من أقدم المقاهي الباريسية احتفاظا بطابعه الأصلي حيث الندل يرتدون ملابس تقليدية سوداء وبيضاء، ويخدمون طلبات الزبائن بإجلال وتقدير. ولا يزال المقهى يمارس طريقته التقليدية القديمة في تقديم مشروب الشوكولاته الساخنة، حيث تحضر من الأقراص التي تذوب في الحليب كما في ثلاثينات القرن الماضي. إضافة إلى قائمة الطعام المتميزة: سمك السلمون المدخن، كبد الإوز، وغيرها من الأطباق الموسمية التي يعدها «شيف» المقهى.

ويروي الكاتب فيليبون سيرة المقهى قائلا: «في الساعة العاشرة صباحا كان جان بول سارتر يأتي بمرافقة سيمون دو بوفوار إلى هذا المقهى، ويجلسان على مائدتين صغيرتين متجاورتين ويكتبان خلال ساعتين بلا توقف وهما يحرقان السجائر، الواحدة تلو الأخرى. وكان بإمكانهما العمل هنا بسلام لأن المتطفلين يكونون في تلك الأثناء يبحثون عنهما في مقهى (فلور) المجاور».

ويعلق الروائي كلود مورياك: «إنه مشهد جميل حقا أن ترى المعلم الكبير أندريه بريتون محاطا بدزينة من أتباعه المسنين وهو يدخن غليونه بوقار على رصيف (لي دو ماغو)، ثم يمر أنطوان آرتو الذي أبعد من المجموعة السريالية، لكي يلقي التحية بصوت خافت، فينحني له بريتون بعمق أكبر». ويمكن سرد مئات القصص والحكايات عن هذا المقهى، على سبيل المثال، التقاء بيكاسو بدورا مار التي كانت تعمل مصورة وأصبحت زوجته في هذا المقهى.

ويكتب الأديب جان ديو: «كان المثلث الذهبي المؤلف من ليب ودو ماغو وفلور محفورا في كل الرؤوس المفكرين والأدباء».

من رابلييه إلى فيرلين، ومن سارتر إلى دو بوفوار، عاش الكتاب والأدباء أجمل لحظات حياتهم في هذا المقهى. وما حياة المقاهي الباريسية إلا امتداد للبيت أو الشقة. يقول جان بول سارتر في هذا الصدد: «عندما كنت أعمل معلما لم تكن لدي النقود الكافية وأعيش في فندق شأني شأن جميع الفرنسيين، كنت أقضي جل أوقات النهار في المقاهي».

وهكذا تحول مقهى «لي دو ماغو» إلى نوع من البيت والمكتب بالنسبة لهؤلاء الكتاب والأدباء الذين كانوا يعيشون في المقهى، يكتبون ويتناولون طعامهم، ويستقبلون ضيوفهم، ويلتقون بأصدقائهم وصديقاتهم وحبيباتهم، كما يكتبون رسائلهم. وبمقابل ثمن فنجان قهوة واحد يوفر المقهى لهم يوما دافئا في جو باريس الصقيعي.

كانت سيمون دو بوفوار تقول أثناء الحرب العالمية الثانية: «كنت أشعر بأن المقهى أصبح جزءا من العائلة».

وقد خلد اسم مقهى «لي دو ماغو» في عدد من الأعمال الأدبية الهامة في العالم، منها: «صناع العربة» لستيف ماتاشيت، حيث يصفه الكاتب بأنه أول مقهى تباركه أشعة شمس الصباح، وفي رواية «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف 1955، وفي رواية ابها داويسر «ذلك الصيف في باريس» 2006، ورواية «بين الجسر والنهر» لكريج فيرغسون 2006، وفي رواية «الفتاة السيئة» لماريو فارغاس يوسا 2006، وفي رواية «مدينة تابلوتية» لبيت هاميل 2011. كما ظهر اسم المقهى في عدد من الأعمال السينمائية والفنية.. ولا يزال مقهى «لي دو ماغو» يمنح جائزته حتى الوقت الحاضر، حيث فازت مؤخرا رواية «ذكريات العالم» لميشال كريبو بجائزته الأدبية، الصادرة عن منشورات «غراسيه». ومن الظريف أن لهذا المقهى أيضا موقع إلكتروني، وخدمة صحافية تقوم بإصدار الأخبار والمعلومات عن نشاطات المقهى بشكل دوري.