«فارس الوردة الفضية» في مهرجان فلورنسا الموسيقي

انهيار ثريات العصر الغابر على إيقاع رقصات الفالس

مشاهد من الأوبرا «فارس الوردة الفضية»
TT

عاشت فلورنسا، مهد النهضة الأوروبية، لحظات موسيقية نادرة في الشهر الماضي لمتابعة رواية هزلية عاطفية حين افتتح المهرجان الخامس والسبعون لربيعها الموسيقي بتقديم إنتاج جديد لدرة المسرحيات الموسيقية للموسيقار الألماني ريتشارد شتراوس (1864 – 1949) المسماة «فارس الوردة الفضية» بقيادة المايسترو العالمي البارع ذي الأصل الهندي زوبين مهتا.

تدور أحداث الأوبرا في زمن الإمبراطورية النمساوية قبل مائتي عام، وعلى أنغام رقصات الفالس نجد عاشقا شابا للأميرة يتقلب في فراشها ويتخفى بشكل خادمة (أوكتافيان) بينما تفاجأ الأميرة ماريا تيريزا (وريثة العرش) بزيارة قريبها الفظ العجوز البارون أوكس لإبلاغها قراره بالزواج من الشابة الغنية صوفيا لكن حين تقع عيناه على «الخادمة» يبدأ في مناغشتها والتودد إليها وفي الوقت نفسه يطلب من قريبته أن تختار الفارس المناسب لتسليم «الوردة الفضية» لخطيبته حسب تقاليد النبلاء في النمسا، فتختار عشيقها الذي يحمل الوردة إلى صوفيا ويقع في غرامها على الفور، لكن الخطيب الرسمي أوكس يقابلها مع والدها ويمسها بخشونة وكأنها نعجة يشتريها في السوق فتغضب من تصرفاته المستهجنة لولا أنه يعد والدها بترويضها بعد الزواج. في تلك اللحظة يشهر الشاب سيفه دفاعا عن صوفيا ويجرح البارون العجوز. في الفصل الأخير يقع البارون ضحية فخ متقن في حانة رخيصة حين يحاول مداعبة إحدى الزبائن فتصيح قائلة إنه زوجها ولم يتعرف على حقيقتها لأنها تخفت بشكل أرملة جميلة وتجلب أولادها كي تكبر الفضيحة ويتبعهم رجال الشرطة ثم تدخل الأميرة لتوقف الفوضى وتحل المشكلة، وتنتهي القصة بزواج صوفيا والشاب بينما يتم الصفح عن البارون المتهور وتدرك الأميرة بحسها الواعي أنها أكبر سنا من الشاب العشيق ولو حاولت وقف عقارب الساعة وقلب صفحات المفكرة بالعكس حتى لا تدركها الشيخوخة.. إنها نهاية الزمن الغابر ورقصة الفالس القديمة قبل الدخول في العصر الحديث.

إنها أوبرا طويلة تستغرق أربع ساعات من دون أن نشعر بدوران الزمن وعقارب الساعة والسبب هو الإبداع الموسيقي الذي جعل هذه الأوبرا أهم المسرحيات الغنائية وأكثرها شعبية في القرن العشرين، ويمكن مقارنة شعبيتها بالمسرحية الغنائية المعروفة «سيدتي الجميلة» التي فاقت شهرتها كل الأوصاف في الخمسينات وتحولت إلى فيلم سينمائي ناجح عام 1964 بطولة أودري هيبورن وريكس هاريسون.

المايسترو مهتا كان الأنجح في قيادة هذا العمل الموسيقي الضخم وسيطر سيطرة كاملة على الأوركسترا بنعومة وطلاقة وانضباط متقن، ومع تقدم سنه (76 عاما) وطول مدة العرض رأيناه جالسا على كرسي مرتفع يشير بعصا القيادة وكأنه يشارك المغنين في الأداء. ولد في بومباي بالهند قبل نيلها الاستقلال في طائفة مجوسية من أتباع زرادشت وتمرس بالفن وقاد أهم الفرق الموسيقية في العالم كما قاد حفل المغنين الكبار (بافاروتي - دومينغو - كاريراس) في حمامات كاراكالا الأثرية بروما أثناء مباريات كرة القدم العالمية قبل 22 سنة وأصبح التسجيل أكثر مبيعات الموسيقى الكلاسيكية في التاريخ. يعترف مهتا بأنه تعرض في أوائل نشاطه الموسيقي في إيطاليا في الستينات إلى «نوع من النقد بصورة مبطنة، حين قاد إحدى قطع ريتشارد شتراوس صاح أحد المتفرجين قائلا: يا لها من أنغام عذبة! وكان يقصد العكس». أما الليلة وبعد خبرة خمسين عاما وقيادة الأوركسترا في فيينا ولوس أنجليس ونيويورك وميونيخ فقد تفوق مهتا على نفسه وكان الجمهور منتشيا بالإعجاب وصاروا يصفقون ويصيحون مطالبين بالمزيد رغم الساعات الطويلة.

فاق الإنتاج الجديد لهذه الأوبرا كل التوقعات وبرعت المغنية الألمانية أنجيلا دينوك في دور الأميرة، والمغنية الأسترالية كيتلن هولكب في دور الخادمة (العشيق أوكتافيان)، والمغني الضخم من آيسلندا كريستن سيغموندسون بدور البارون الفظ أوكس، وكان الثلاثة الذين يمثلون الشخصيات الرئيسية على أعلى مستويات التمثيل والغناء في آن واحد، وخاصة دينوك. أما رقصات الفالس فكانت بهيجة ومدهشة وأثبت ريتشارد شتراوس أنه، وإن لم يكن من أقارب ملك الفالس النمساوي يوهان شتراوس مؤلف «الدانوب الأزرق»، فإن لقبه يعني أنه يستطيع أن ينافس الملك على عرشه.

لقد سجل هذه الأوبرا على الأسطوانات والأشرطة والأسطوانات المدمجة جميع قواد الأوركسترا المشهورين منذ عام 1936، أي بعد تأليفها بربع قرن، لكن رؤيتها بشكل حي مباشر يختلف عن سماعها عبر التسجيلات، فالديكور المميز والملابس التاريخية وصور فيينا القديمة التي تتلاعب فيها الأضواء تعطيك الشعور بأنك انتقلت فعلا إلى عصر الإمبراطورية النمساوية الذهبي. إنما لا ننسى أن هذه المتعة ستكلف المتفرج 250 يورو (325 دولارا) للمقعد الواحد في الدرجة الأولى، أي ما يعادل شرب ألف زجاجة ماء معدني كبيرة في إيطاليا خلال عام كامل، فإذا ضحى المتفرج بذلك وشرب ماء الصنبور (الحنفية) مجانا لتوفير المبلغ فلن يحس بغلاء سعر التذكرة!