«الكافيه 11».. تجربة فنان لربط الحاضر بالماضي

روادها من النخبة الثقافية والسياسية ووفود أجنبية تزورها قبل حجز الفنادق

المكان الذي يجمع بين التراث والحداثة
TT

المشروع الفني إذا تحول إلى تجارة، يكون المنتج «فنا هابطا»، ولكن عندما تتحول التجارة إلى مشروع فني، فالناتج سيكون سموا وعلوا. وهذا ما رصدته «الشرق الأوسط» عند دخولها إلى «كافيه 11» بمدينة السليمانية، وهو مشروع بالأصل تجاري لفنان شاب واعد سبق أن خاض مغامرات عديدة بعدسة كاميرته في رصد الأحداث وتوثيق جوانبها المختلفة متحديا المحظور والممنوع، ناقلا عبر عدسته متناقضات الحياة في بلده إلى العالم الأرحب عبر عدة معارض شخصية افتتحها في مدن العالم، وقد وفق بذلك.. ولكن مغامرته الجديدة التي يلج بها إلى مشروع تجاري، قد لا تكون كذلك، وإن لم يبال بالعائد رغم أنه قد يكون صرف كامل مدخراته في هذا المشروع، والذي أضفى عليه لمسات سحرية وجمالية تفوق الوصف، فأصبحت «كافيه 11» ملاذا لعشاق الفن الجميل والمتعلقين من الجيل الحالي بالماضي التليد.

جمال بينجويني.. شاب في مقتبل العمر، لكنه كبير بفنه وعطائه الثر الذي مكنه من أن يكون أحد أبرز نجوم فن التصوير الفوتوغرافي في كردستان، كرس كاميرته لرصد متناقضات الحدث، ليجسد من خلالها متناقضات الحياة.. وفي مشروعه التجاري لم يغب عنه هوسه برصد تلك المتناقضات، فتراه يجمع على جدران غرف الكافيه، صورا للزعيم الثوري العالمي أرنستو تشي جيفارا إلى جانب صورة ملك البوب الأميركي مايكل جاكسون، ويضع صورة زعيم السلام العالمي المهاتما غاندي إلى جانب الزعيم النازي أدولف هتلر. وبين صور الديكتاتور صدام حسين، تتناثر صور ومشاهد لمآسي الشعب الكردي.. الهجرة والتشرد والضربات الكيماوية والأنفال. ذلك هو طبع بينجويني الفنان الواعد الذي يحاول أن يكسر التقليد ليمتع الناظر إلى أعماله بمناظر ومشاهد لا تمحوها الذاكرة عبر عدسة كاميرته المبدعة.

هذا الإصرار على كسر التقليد النمطي دفعنا إلى مبادرته بسؤال عن سبب فرش حديقة الكافيه بالحصا بدل العشب، فأجاب «العشب تقليدي، وأنا أريد أن أكسر هذا التقليد!».

بين زوايا الغرف وثنايا الأشياء التي وزعها جمال بأنحاء الكافيه، تجد أشياء غير مألوفة تعبر عن حس فني باهر، فقد علق خوذتين عسكريتين من مخلفات جيش صدام حسين بالمدينة على أغصان أحد الأشجار بعد أن حولها إلى مزهرية، وزرع فيها ورودا جميلة! حتى الاسم بدا غريبا وغير تقليدي بالمرة، خصوصا أن الكافيهات لا تعرف بالأعداد بل بالأسماء كما هي العادة، ويقول جمال «لقد اخترت هذا الاسم لأن ترتيب البيت الذي استأجرته للكافيه هو الحادي عشر ضمن الحي السكني، ولو كان ترتيبه 13 لسميته (كافيه 13) وإن كان الرقم مشؤوما!».

الأثاث والإكسسوارات الموزعة داخل الكافيه تشبه إلى حد بعيد تلك الموجودة بالمدن الأوروبية، وتحديدا الأثاثات ذات الطابع الإيطالي، ولكن مع الفارق أن أثاث الكافيه محلي صرف.. فالمناضد والكراسي الخشبية صنعت من أخشاب تعود أعمار بعضها إلى أكثر من قرنين، يجلس عليها رواد الكافيه من كبار الكتاب والأدباء والفنانين الذين وجدوا أخيرا ملاذا هادئا لهم في هذا المكان الذي يجمع بين التراث والحداثة. فإلى جانب أبواب وشبابيك خشبية تعود إلى بدايات القرن الماضي، وإكسسوارات منزلية بسيطة كان الناس يستخدمونها في منازلهم ببدايات القرن الماضي، تجد الكومبيوترات والآلات الموسيقية حاضرة لخدمة الزبائن، وجمال يمر على الجميع يلبي حاجاتهم ويوجه الشباب إلى التعرف على المواقع الإلكترونية ويساعدهم في التغلب على مشاكل التصفح، ثم يتحول إلى منضدة أخرى ليناقش الجالسين حول قضية فنية.

يتحدث جمال عن المنزل الذي استأجره ويقول «هذا المنزل أنشأه أحمد خواجة أفندي عام 1959، أما لماذا اخترت هذا المنزل، فلأن الإنسان عادة يبحث عن شيء فاته أو لم يعد يمتلكه، ونلاحظ اليوم في كردستان بسبب تحسن الأحوال المعيشية للسكان، أن الكثيرين منهم يهدمون بيوتهم القديمة لينشئوا عليها منازل بخرائط جديدة وموديلات حديثة، فأصبح من النادر أن ترى منزلا يعيد إلى ذاكرتك أيام الماضي، وعندما كنت في أميركا اختمرت لدي فكرة إنشاء كافيه يجمع بين القديم والحديث، هناك المئات من الكافيهات منتشرة داخل مراكز التسوق والسوبر ماركيتات بالمدينة، يذهب الناس إلى هناك للتسوق وقد يستغلون وجودهم فيها لشرب فنجان شاي أو قهوة، ولكن كل تلك الكافيهات ليس فيها ما يرمز إلى الماضي الجميل، لذلك حاولت من خلال هذا الكافيه أن أجمع بين القديم والحديث، وأن أوفر للزبون متعة الجلوس بمكان هادئ بعيدا عن صخب التسوق، ومتعة النظر إلى التراث القديم». ويضيف «عندما تجلس هنا، يصادف أن يكون بجنبك أحد القادة السياسيين، أو عضو في البرلمان، أو كاتب كبير، أو فنان رائد، ستشعر بأنك في مكان خاص تغلب عليه هيبة ووقــــار بوجــــود مثل هؤلاء الأشخاص».

سألناه هل هذا يعني أن رواد الكافيه هم من النخبة فقط، فأجاب «لا، الكافيه مفتوح للجميع، ولكن طبيعة المكان تفرض نوعا معينا من الزبائن، فليس لدينا ألعاب ترفيهية مثل الدومينو أو الطاولة والنرد كما في المقاهي، والتدخين ممنوع داخل الغرف، وليست هناك أكلات أو أطعمة، لأنها كافيتريا وليست مطعما، الجو هنا هادئ إلى آخر درجة، ولا يشبه صخب وضجيج المقاهي الأخرى، لذلك فإن من يأتون إلى هنا هم الباحثون عن الهدوء والتأمل، وهذا ما يحتاجه الفنان والأديب والكاتب، بل وحتى السياسي».

أمضى الفنان جمال بينجويني سنة كاملة بتصميم أثاث الكافيه، ويقول «بعد أن استأجرت المنزل أردت أن أصنع بنفسي أثاث الكافيه، فكل المناضد والكراسي التي نراها هي من تصميماتي، أما الإكسسوارات الأخرى فهناك من تبرع بها، وهناك من اشتراها من السوق وأهداها لنا. عندما كنت في إيطاليا وجدت أثاثا من مختلف الأنواع تنفع أن أستوردها للكافيه، ولكني فكرت أن أي تاجر أو أي شخص ثري بإمكانه أن يستورد ما يعجبه من الأثاث من أي دولة بالعالم، ولذلك استقررت على قرار أن أضفي على المكان طابعا محليا وتراثيا، وهكذا جمعت الأخشاب القديمة وقمت بتصميم الكراسي والمناضد الخشبية».

جمال المكان وتفرده يدفع العديد من الشباب الكرد داخل وخارج المدينة للاتصال بصاحبه، ويقول بينجويني «أتلقى العديد من الرسائل الإلكترونية والاتصالات من الشباب ومحبي الجمال والتراث يطلبون مني عنوان المحل لزيارته بعد أن يكونوا قد سمعوا بهذا المكان الذي اشتهر بفترة قياسية، هناك أشخاص يعتبرون الكافيه منزلهم واعتزازا منهم يجلبون أعز مقتنياتهم ليضيفوها إلى أثاث وإكسسوارات الكافيه، وهناك أفواج من السياح الأجانب أيضا يرتادون المحل ويأتون إليه حتى قبل أن يحجزوا فنادقهم، وأراهم مبهورين بجمالية المكان، ويهنئونني على الحس الفني في التصميم».

وعن الجدوى الاقتصادية لهذا المشروع وما إذا كان قد غامر بماله، قال بينجويني «لدي روح التحدي، وكنت قد غامرت في السابق بمحاولتي الخروج من الحدود المحلية إلى عالم أرحب من خلال نتاجي الفني الفوتوغرافي، والحمد لله لقد نجحت ووفقت في المشاركة بالعديد من المعارض الفنية في عدد من مدن العالم، واليوم أغامر بهذا المشروع الذي أعتبره مشروعا فنيا أكثر منه تجاريا، مع ذلك فالعائد إلى الآن جيد والحمد لله، وحتى لو خسرت في المحصلة فأنا مرتاح لأنني استطعت أن أقدم شيئا ونموذجا فنيا من خلال مشروع تجاري، وهذا يكفي».

عن الصور المعلقة وتناقضاتها قال الفنان جمال بينجويني صاحب الكافيه «الحياة بطبيعتها مليئة بالتناقضات، وأنا أردت أن أعبر وأجسد تلك التناقضات عبر الصور المعلقة، فتلاحظ أنه بين صورتي الرئيس الأميركي أوباما والرئيس الإيراني أحمدي نجاد تتوسطهما صورة (حمار)، وبين صورة شخصية عالمية هناك صورة لشخص بسيط بالمدينة يعمل نجارا أو حدادا، هذه متناقضات الحياة موجودة».

آوارة عطا.. شاب كان مقيما بجنوب إيطاليا ويعمل حاليا شريكا لجمال، عاد من أوروبا إلى كردستان ليشاركه هذا المشروع، وسألته «الشرق الأوسط»: «هل يشبه هذا المكان تلك التي كان يراها في مدن إيطالية»؟ فأجاب «ليس بالشبه الكامل، ولكن طابعه يجسد ذلك، وحاولنا منذ البداية أن يكون ما نقدمه للزبائن من المشروبات والأطعمة الخفيفة يتشابه إلى حد بعيد مع ما يقدم في الكافيهات الأوروبية، وتقريبا الآن لدينا نفس تلك الأطعمة والمرطبات». ويضيف أن «هذا المكان يحمل فعلا طابعا أوروبيا لذلك اشتهر بين الشباب، والوفود الأجنبية التي تأتي إلى هنا يعبرون عن اندهاشهم لجمالية المكان، وخصوصا معرض الصور القديمة». وحول العائد قال آوارة إن «ما أحصل عليه في هذا المكان هو أكثر بكثير مما كنت أقبضه من عملي في مثل هذه الكافيهات بأوروبا، لذلك فالعائد مشجع والحمد لله، ونحن أربعة عمال نعمل في خدمة الزبائن».

يرتاد الكافيه عدد كبير من الشخصيات السياسية والثقافية، وهذا ما يشجع الكثير من شباب مدينة السليمانية إلى ارتيادها، يقول آوات قرداغي، وهو أحد مرتادي الكافيه: «كل ما أريده موجود هنا.. الهدوء والسكينة، ومناظر فنية جميلة وعالية المستوى تعبر عن ذوق الفنان جمال بينجويني الذي يضفي حضوره اليومي طابعا مميزا على المكان، فهو أصبح صديقا للكل، كما أنني صادفت في زياراتي للكافيه عددا من كبار نجوم الأدب والفن والسياسة، الذين نادرا ما نراهم في أماكن أخرى، فيبدو أن الكافيه تحولت إلى مكان خاص بالنخبة، وهذا ما يريحنا ويريح أعصابنا من صخب وضجيج الكافيهات والمقاهي الأخرى، فمن ينشد الهدوء والسكينة والتأمل فعليه أن يأتي إلى (الكافيه 11)».