كنيسة «لابيلا».. أعجوبة الدنيا المنسية

شيدها «الجن».. بحسب أسطورة محلية

في القرن السادس الميلادي كان لهندسة البناء الاثيوبية تأثير قوي على طريقة بناء الكنائس في المناطق القريبة من البلاد («الشرق الأوسط»)
TT

ينتقل الخيال بسرعة البرق إلى سؤال واقعي عند رؤية أهرامات الجيزة في مصر، كيف استطاع الفراعنة جلب الكتل الحجرية، ثم رفعها إلى عنان السماء لتظل آلاف السنين هكذا؟! السؤال ذاته يفرض نفسه عند رؤية كنيسة «لابيلا»، الواقعة وسط الهضبة الإثيوبية.. بناء محفور من كتلة واحدة، داخل صخرة صماء، تشكل عجيبة الدنيا الثامنة «المنسية».

يشيع في المكان، أن الكنيسة بناها «الجن»، ذلك لاستحالة أن يقوم بشر بعمل متقن كهذا، بمواصفات هندسية فريدة، في ذاك الزمن السحيق من التاريخ، دون أي إضافة لمواد بناء، حيث يرتقي إلى الأعلى بعدد من الطوابق، ليشكل السقف علامة الصليب، يراها الزائر من بعيد صليبا مرسوما على الأرض، ثم تتضح الصورة بالاقتراب أكثر لرؤية البناء ممتدا داخل أحفورة ضخمة.

لا يزال كثير من «الحجاج» الإثيوبيين يحرصون على زيارة كنيسة «لابيلا» سيرا على الأقدام، في مسيرة قد تمتد عدة شهور، ويأتي الحرص على زيارة المكان، وبخاصة في الأعياد، لارتباط الموقع حتى الآن بأسطورة «بناة الجن»، حيث شكلت الصخرة الصماء حماية لها من عوادي الدهر والبشر.

على بعد 500 كيلومتر شمال أديس أبابا، تقع مدينة «لابيلا» المشهورة بكنائسها الـ12، لكن أشهرها تلك المحفورة في الصخر، التي تسمى سان جورج، والتي يقول عنها ادونيا شالجيسا، المرشد السياحي الإثيوبي، لـ«الشرق الأوسط»، إنها بنيت في القرن الثاني عشر الميلادي، ولا تزال تقف في حالة ممتازة، وقد اعتمدتها اليونيسكو ضمن التراث العالمي.

ويشير شالجيسا إلى أن كنيسة «لابيلا» تدور حول بنائها الكثير من الأساطير، تشير إحداها إلى أنها بنيت من قبل الشياطين، مستدركا أن رواية أخرى تحدثت عن قصة قديمة تبين أن «لابيلا» هو فتى اكتشفت والدته سربا من النحل حوله، والنحل في الأساطير المحلية ينقل الإنسان إلى المستقبل، وقد نقل الطفل ليرى أنه أصبح ملكا للقدس في المستقبل، وانتصر على أشقائه الذين حاولوا قتله بالسم، ثم اعتلى عرش القدس، ثم عاد قائدا جمعا من الأرواح إلى لابيلا ساعدوه في بناء الكنيسة بشكلها الحالي. ويقال إنه تم بناء الكنيسة في سرعة مذهلة، وحتى يومنا هذا يعتقد الناس في هذه الرواية التي تشير إلى أن الملائكة جاءت في الليل، وساعدت على إنجاز البناء.

الأب فرانسسكو الفاريس، قسيس برتغالي زار لابيلا عام 1520، وسجل أنه وقف على بناء يتجاوز زمنه من حيث الجمال وإتقان البناء حد الكمال، وذكر النقوش والمنمنات والرسوم التي تلف الجدران والنوافذ وبقية المخارج الموشاة بالذهب والفضة بما يشير إلى أن هذا العمل ما قام به إلا فنانون ذوو مستوى رفيع، وأقسم بالله أن ما ذكره هو الحقيقة المجردة، لخوفه أن لا يصدق الناس أن مثل هذا البناء موجود في مجاهل أفريقيا.

الوصول إلى داخل مبنى الكنيسة المرتفع من داخل الأرض إلى 12 مترا تقريبا، يعد مغامرة في حد ذاته، حيث تتطلب النزول عبر درجات منحوتة على الأرض، تحفها جملة من الأحافير المختلفة الأحجام، على الجانبين، يتخذها الكثير من (الزائرين والسياح) مكانا للراحة أو القراءة، بيد أن حجم بعضها يحتمل وجود شخص في وضع الانحناء، وبعضها مغلق تشير إلى أنها استخدمت كمقابر للكهنة.

بعد إكمال الدرجات «العصية» تصادفك بوابة مزخرفة ويمكن أن الدوران عبر البناء المربع للدخول من أي من البوابات الـ4، التي تبدأ جميعها بسلالم ضيقة تفضي إلى داخل المكان، الذي ترتفع من داخله همهمات القراءة والدعوات التي لا تخلو من حشرجات بكاء.

ويعود المرشد السياحي بالقول إن الكنسيون الإثيوبيون حافظوا على أماكن العبادة والمقتنيات التي يحرم على الأشخاص غير المخولين الاقتراب منها، ويعتقد أن كنيسة القديسة مريم في مدينة أكسوم الشهيرة تحتضن النسخة الأصلية من تابوت العهد، ويأتي آلاف الحجاج سنويا إلى أكسوم لزيارة الكنيسة حيث تابوت العهد، ولكن لا يسمح للسياح بالاقتراب من المكان، ولا حتى بتجاوز البوابة، وأن هذه الإجراءات اتخذت بعد أن حاول اثنان من السياح تسلق البوابة واختلاس النظر إلى تابوت العهد.

وتوجد الكثير من الكنائس المنحوتة في الصخر في إثيوبيا، إلا أن أكثرها شهرة كنيسة القديس جورج في لابيلا، ويوجد أيضا نمط آخر في هندسة الكنائس الإثيوبية هو البازيليك، ومن أشهرها بازيليك السيدة مريم في مدينة أكسوم، وفي القرن السادس الميلادي كان لهندسة الكنائس الإثيوبية تأثير قوي على طريقة بناء الكنائس في المناطق القريبة من البلاد، ويوجد شكلان مميزان لبناء الكنائس الإثيوبية، الأول المربع أو المستطيل، الذي يوجد في إقليم التجراي والثاني الشكل الدائري ويوجد في إقليم الأمهرة.

وتقام معظم المراسم الاحتفالية الدينية باللغة «الجعزية» التي أصبحت لغة رسمية للكنيسة على أقرب تقدير بعد وصول من دعيوا بالقديسين الـ9 إلى إثيوبيا، الذين قدموا إليها هربا من بطش الإمبراطور البيزنطي بسبب رفضهم لمقررات مجمع خلقيدونية عام 451.

وتوجد ترجمة للنسخة السبعينية لكتاب العهد القديم، ترجم من اللغة اليونانية إلى اللغة الجعزية، وكان الإمبراطور هيلا سيلاسي خلال فترة حكمه قد رعى عملية إصدار نسخ رسمية باللغة الأمهرية لمخطوطات قديمة مكتوبة باللغة الجعزية. ويتم الوعظ اليوم في كنيسة التوحيد الإثيوبية باللغات المحلية.