حياة ونستون تشرشل من خلال المراسلات والخطابات السياسية

معرض «قوة الكلمات» يلقي الضوء على تجربة فريدة لشخصية في القرن العشرين

TT

لن يكون هناك مفر من سماع التصريحات الجهورية والطنانة في المعرض الجديد الذي يحمل اسم «تشرشل: قوة الكلمات»، والذي يعقد في متحف ومكتبة مورغان، وذلك لأن مركز المعرض عبارة عن مسرح شبه مغلق. وهناك أيضا تسجيلات صوتية لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل، وهو يتحدث إلى البرلمان البريطاني ومستمعي الإذاعة البريطانية والجمهور الأميركي، وتنزل تلك الكلمات القوية على الأذن وكأنها أمواج متلاطمة تصعد وتهبط مع كل نفس، وقد تتعلق بعضها في الهواء بشكل غير متوقع في بعض الأحيان، وقد تندفع بقوة متجددة إلى الأمام في أحيان أخرى.

ولو دخلت ذلك المسرح الصغير لكي تستمع إلى مقتطفات من الخطب الثماني الشهيرة بصورة أكثر وضوحا، فسوف تشاهد تلك الكلمات أيضا على الشاشة وهي منظمة في أوزان شعرية رائعة («كل غضب وقوة العدو.. يجب أن يتحول علينا في وقت قريب للغاية»)، بالطريقة التي كتبها تشرشل لكي تناسب نبرات صوته المميزة. ولكن تجاهل هذا الصوت، إن استطعت، واتركه إلى الأبد، لأنه من الأفضل أن يتم تذكيرك في البداية بأهمية تلك الخطب التي ألقاها رئيس الوزراء البريطاني والفرق الكبير الذي تسببت فيه.

ولا يعد هذا المعرض معرضا تاريخيا، ولذا لن يخبرك بأدق التفاصيل عن الحياة السياسية لتشرشل في منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم، أو العدد القليل من الإنجليز الذين كانوا على استعداد للاعتراف بما كان يحدث في ألمانيا، أو من كانوا على استعداد للتفكير في نتائج تلك الحرب، بعد 20 عاما من إراقة الدماء في جميع أنحاء الكرة الأرضية، ومدى الرؤية والبصيرة التي كان يتمتع بها تشرشل والتي مكنته من التنبؤ بما سيحدث وبالثمن الذي سيدفعه الجميع جراء هذه الحرب الطاحنة.

ولذلك لن تتمكن في حقيقة الأمر من فهم أنه كانت توجد فترة بين قيام ألمانيا بالهجوم على إنجلترا عام 1940، مما أدى لمقتل أكثر من 40.000 بريطاني، وبين دخول الولايات المتحدة الحرب في نهاية عام 1941، عندما كان من الممكن أن تسقط بريطانيا أو أن تقدم تنازلات كبيرة وتذعن للمطالب الألمانية، إذا لم يكن تشرشل عبقريا في استخدام الكلمات والأفكار كرئيس لوزراء بريطانيا من خلال وعوده المليئة بكلمات الدم والدموع والكد والعرق.

لكنك سترى ما يكفي لتعرف معنى قيادته لبريطانيا في وقت الحرب، أما باقي المعرض فيهدف إلى إظهار كيف كان كلام تشرشل يبدو وكأنه تعبير عن قوة الحياة، ويمزج بين المشاعر المتقلبة والالتزام غير العادي، والإخلاص والتفاني العميق والترويج للنفس بصورة مليئة بالحيوية والحماس، والتساهل المفرط والتدقيق في التفاصيل. ويساعد المعرض، الذي تم افتتاحه يوم الجمعة الماضي، على إلقاء الضوء على تجربة حياة ظلت، حتى خلال السنوات التي تلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، تحظى بإعجاب كبير باعتبارها تجربة مثالية، كما قوبلت بنفس القدر من الاستهجان من قبل منتقدين نظرا لطبيعتها المتطرفة.

وقد تم تجميع أكثر من 60 وثيقة وتحفة من قبل ألين باكوود، وهو مدير مركز محفوظات تشرشل بجامعة كمبريدج، لكي يتم عرضها في ذلك المعرض، وقد تم الاعتماد أيضا على مقتنيات منزل تشرشل بمنطقة شارتويل بمقاطعة كنت البريطانية. ولن تتاح لك فرص كثيرة لرؤية تلك الوثائق وهي معروضة في مكان عام، وحتى في إنجلترا نفسها، على الرغم من أن العديد منها مرقم كجزء من المتحف في مركز ومتحف تشرشل في العاصمة البريطانية لندن.

وثمة خطابات من مرحلة الطفولة المعذبة لتشرشل، عندما قامت والدته الأميركية الثرية ووالده المهمل بإلحاقه بمدرسة داخلية وهو في الثامنة من عمره (وثمة خطاب يعود لعام 1883 أو 1884 وفي نهايته قبلات، والتي كانت نادرا ما تأتي من شخص آخر سوى مربيته التي كان يحبها كثيرا). وهناك أيضا تقرير مدرسي عن حالته عندما كان لا يتجاوز العاشرة من عمره، ويصفه هذا التقرير بأنه «دائما ما يسبب المشاكل للجميع».

وبعد ذلك، ننتقل لنرى المغامر والمؤرخ، الذي يغازل المعارك ثم يكتب عن تفاصيلها، حيث يقول في إحدى الوثائق لوالدته في عام 1897 «لدي طموح كبير لأن تكون لدي سمعة رائعة مليئة بالشجاعة الشخصية أكثر من أي شيء آخر في العالم». وهناك أيضا مسودات لخطابات كتبها بطريقة تشبه الشعر وعينة من اللوحات التي كان يرسمها تشرشل كهاو، وجائزة نوبل التي حصل عليها في الأدب عام 1953 لتفوقه في الوصف التاريخي والسيرة الذاتية، فضلا عن خطاباته الرائعة (وصف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق آرثر بلفور السيرة الذاتية لتشرشل عن الحرب العالمية الأولي، والتي تمت كتابتها في ثلاثة مجلدات، بأنها «سيرة ذاتية رائعة تمثل تاريخ الكون بأسره في تلك الحقبة»).

وربما تعد أكثر الوثائق الجديرة بالاهتمام هنا هي وصفة طبيب في نيويورك تعود إلى السادس والعشرين من شهر يناير (كانون الثاني) عام 1932، حيث كان تشرشل في جولة لإلقاء المحاضرات وصدمته سيارة في شارع «فيفث أفينيو» الشهير وكان بحاجة إلى مساعدة طبية.

وكتب الطبيب يقول في تلك الوصفة - التي تعد من أكثر الأشياء المحظورة - يقول «يتعين على ونستون تشرشل خلال فترة النقاهة التي تلت الحادث الذي تعرض له أن يتناول مشروبات كحولية خلال أوقات الوجبات، أما بالنسبة للكمية فهي لأجل غير مسمى وبشكل طبيعي، ولا تقل عن 250 سنتيمترا مكعبا أو ما يزيد على 8 أوقيات».

وقد أصبحت هذه الكمية «لأجل غير مسمى وبشكل طبيعي» واحدا من الأشياء التي يشتهر بها تشرشل، جنبا إلى جنب مع السيجار ونبرات صوته التي تم استخدامها بشكل كبير خلال مسيرته السياسية. وقد شارك تشرشل في 21 انتخابات برلمانية خلال الفترة بين عامي 1899 و1955، وخسر في خمس منها. لكن كل هذا - وحتى الشاشات التي تعمل باللمس والتي تظهر كل الوثائق في المعرض، علاوة على غيرها من الوثائق والتدوينات المكتوبة بخط اليد - كانت ستحظى باهتمام ضعيف من جانب المتخصصين لو لم تكن عن خطابات تشرشل وكتاباته بدءا من منتصف الثلاثينات وحتى الخمسينات من القرن الماضي.

كان تشرشل شخصية تزخر بالإنجازات البلاغية، أو الموسيقية إن جاز التعبير، حيث كان تفاؤله الفطري يقدم نوعا من الوعود الكبيرة، حتى عندما كان يحاول توضيح حجم الكارثة التي تمر بها البلاد. وكان لديه أيضا إنجاز استراتيجي، حيث كان يمكننا أن نرى في خطاباته ما يدل على وجود خيارات في هذا الشأن، كما كان هناك إنجاز سياسي، لأنه قبل دخول الولايات المتحدة للحرب العالمية الثانية كان يتعين عليه توجيه خطاب لها لكي تفهم المخاطر الجمة التي تحيط بها.

لقد أسهم تشرشل في فكرة «الشعوب الناطقة باللغة الإنجليزية» والتي أثبتت أهميتها، لأنه أدرك أن العادات الأدبية والسياسية الإنجليزية قد حددت كل خصائص الديمقراطية الليبرالية التي كانت مهددة في ذلك الوقت. لقد كشفت خطابات تشرشل عن ولائه للغة وللفكر، كما أسهمت في تشكيل ذلك الولاء، حيث كان يحتفل بتراث معين وبإمكانياته، مع التشديد على نقاط الضعف والحاجة للدفاع عنها.

وتشبه خطابات تشرشل الخطاب الشهير للرئيس الأميركي أبراهام لينكولن خلال الحرب الأهلية الأميركية والذي كان يوضح مخاطر الحرب الأهلية ويضع تصورا للولايات المتحدة في المستقبل. وثمة مقارنات قليلة بين تشرشل ولينكولن في تلك الوثائق، التي تبدو مناسبة تماما (قام الرئيس الأميركي روزفلت بوضع بعض الكلمات من خطابات لينكولن في إطار وأهداها لتشرشل في عيد ميلاده السبعين عام 1944).

وكان تشرشل مهتما بسلسلة طويلة من الأفكار التاريخية، وكانت قدرته على استحضار تلك المعتقدات للحصول على الدعم سببا آخر في كون الانتكاسات الفردية تمثل أهمية أقل بالنسبة له. وكان هناك شيء أكبر على المحك، حيث لم يكن الأمر مجرد مسألة معارضة، بل كانت المسألة تتعلق بما يتم الدفاع عنه، حتى لو كانت الإمبراطورية البريطانية في نهايتها، بينما كانت الولايات المتحدة تستعد لحمل الراية.

وكان هذا هو السبب الذي جعل تشرشل يحث الولايات المتحدة على المطالبة ببعض الأراضي الأوروبية خلال الأيام الأخيرة من الحرب، لمنع ستالين من السيطرة على مساحة أكثر مما ينبغي. وفي أعقاب الحرب كان تشرشل هو من استطاع رؤية ما كان يلوح في الأفق، حيث قال في خطابه الشهير في فولتون عام 1946 «من ستيتين في بحر البلطيق وحتى تريست في البحر الأدرياتيكي، نزل ستارا حديديا على كل أنحاء القارة».

يمكنك رؤية كل هذه الأشياء الكامنة في هذا المعرض الموجز والرائع والذي يثير الذكريات، كما يوضح المعرض أن محاولات نقل تشرشل من مكانه المحوري في التاريخ الحديث ما هي إلا محاولات مضللة. دائما ما تكون العيوب والقصور كثيرة في حياة الأفراد، كما هو الحال في الثقافات والحضارات، لكن ثمة أمور أكثر أهمية تستحق الاعتراف، وهي التقاليد العميقة والواسعة، التي تلهم العدل والولاء، كما يعد تشرشل، والتي تقود المرء إلى «المرتفعات الواسعة والمشمسة»، على حد قول تشرشل نفسه.

* خدمة «نيويورك تايمز»