محل «خريستو» للعب الأطفال.. وشم يوناني على ذراع «مصر الجديدة»

من أبرز زبائنه الزعيم جمال عبد الناصر.. وتتوارث محبته الأجيال

واجهة محل «خريستو» العريق في حي الكوربة بضاحية مصر الجديدة في القاهرة («الشرق الأوسط»)
TT

يتمتع حي «الكوربة» في ضاحية مصر الجديدة، بالعاصمة المصرية، القاهرة، بمذاق خاص؛ فعلى أرصفته المظللة بشرفات العمارات المرفوعة على أعمدة غرانيتية مصقولة، يهوى سكان الضاحية التجول والتسوق من المحلات المختلفة المصطفة على جانبي شارع بغداد. ومن أبرز هذه المحال العريقة محل للعب الأطفال لم يتغير فيه أو معه شيء، حتى اسمه اليوناني، «خريستو».

محل «خريستو» للعب الأطفال يعد الأقدم من نوعه في ضاحية مصر الجديدة التي شيدها المهندس البلجيكي إدوارد لويس جوزيف إمبان، الذي عرف في مصر باسم «البارون إمبان»، في عام 1905. وعلى الرغم من أن السجل التجاري للمحل يرجع إلى منتصف عقد الثلاثينات من القرن الماضي، فإن المحل العريق ما زال يحتفظ بطرازه التقليدي نفسه، ولم يستحدث فيه شيء إلا الألعاب.

كان صاحب المحل يوناني الجنسية يدعى «الخواجة ديمتري»، وفي الماضي كان معظم سكان حي الكوربة من الأجانب الذين كانوا يعيشون في مصر، وبخاصة في شارع بغداد، الشارع الرئيسي في الحي، حيث كان يكثر الأجانب الأثرياء من بلجيكا وإنجلترا وفرنسا. أما في شارع الأهرام، حيث تقع كنيسة (البازيليك) التي شيدها البارون إمبان ودفن فيها، فقد كان معظم سكان الشارع من اليونانيين والأرمن. ومن ذكريات سكان الحي أيضا أن أنطوان بولي، سكرتير الملك فاروق، الشهير، الذي كان إيطالي الجنسية، كان يملك مطعما مرموقا في الحي تحول بعد ثورة يوليو (تموز) 1952 إلى محل حلويات بارز في عقد الستينات من القرن الماضي.

وخلال لقاء مع «الشرق الأوسط» أوضح أحد قاطني حي الكوربة القدامى أن شارع الأهرام كان يقطنه الموظفون الأجانب من بسطاء الحال. كذلك ذكر فايز فهمي قديس، الذي يعمل في محل «خريستو» منذ نحو 4 عقود، أن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وأنجاله كانوا من زبائن المحل. وأشار إلى أن الرئيس عبد الناصر كان يقطن في شارع الخليفة المأمون القريب من الكوربة. وقال قديس لـ«الشرق الأوسط»، شارحا: «إن الخواجة ديمتري تزوج سيدة بريطانية كانت تعيش في مصر منذ صغرها، وكان الخواجة ديمتري قد شاهدها في الحي، لا سيما أن غالبية سكانه قبل ثورة يوليو كانوا من الأجانب. ولكن بعد خروج الإنجليز من مصر رحلت مدام خريستو لبضعة أسابيع وتوسط الخواجة ديمتري لدى الرئيس عبد الناصر الذي سمح لها في ما بعد بالعودة إلى مصر لتعيش فيها حتى وفاتها قبل 11 سنة».

وأضاف قديس أنه كان يشاهد الرئيس المصري السابق، محمد حسني مبارك، وهو يتمشى في حي الكوربة عندما كان لا يزال يشغل منصب قائد القوات الجوية، ويتذكر أن مجموعة لا بأس بها من الشخصيات السياسية من سكان ضاحية مصر الجديدة كانت من ضمن زبائن محل «خريستو»، منهم سيد مرعي نائب رئيس الوزراء الأسبق وزير الزراعة والإصلاح الزراعي السابق، وأحمد رشدي وزير الداخلية السابق.

وأوضح قديس أن مدام خريستو باعت المحل في أواخر التسعينات لبعض المعارف الذين آثروا أن لا يغيروا أي شيء في المحل حتى اسم صاحبه الأصلي، كما أنهم أحجموا عن الاستغناء عن الموظفين فيه «ليكون المحل شاهدا على أصالة وعراقة حي الكوربة، وأن يكون أحد المحال التي لا تزال محتفظة بطرازها الأصيل في الحي».

واستطرد قديس قائلا: «إن محلات ألعاب الأطفال الجديدة الضخمة لم تجتذب إليها في الحقيقة نسبة كبيرة من زبائن محل (خريستو) التقليديين، فزبائننا يشعرون بولاء كبير للمكان، وبالتالي، فهو يشهد تعاقبا للأجيال عليه، ذلك أن معظم المترددين عليه هذه الأيام هم الذين كانوا يأتون إليه بصحبة ذويهم أيام كانوا صغارا، وها هم اليوم أصبحوا يأتون مصطحبين معهم أطفالهم». ويرى قديس أن معاملة أصحاب المحل الأصليين وترحابهم واهتمامهم بالزبائن خلق نوعا من التواصل جعل من الصعب أن ينقطع الزبائن عن المحل. وهنا يتذكر قديس أن «أحد الزبائن المخلصين كان يلح على مالكي المحل وإدارته أن لا يحدثوا أي تغيير في تصميمه وطرازه، ولا يتخلصوا من السلم الخشبي الكبير الذي يستخدمه العمال في الوصول إلى الألعاب الموضوعة أعلى الرفوف، إذ إن ارتفاع الحائط في العمارات القديمة كتلك التي تضم محل (خريستو) قد يصل إلى أكثر من 3.5 متر».

وحقا، يعتبر محل «خريستو» الآن من أبرز معالم الكوربة القليلة - مع الأسف - التي لا تزال محتفظة بمعالمها المعمارية ومحفوظة من سوس العشوائية الذي ينخر في جسد السمات المعمارية للقاهرة على مدار الـ3 عقود الأخيرة. ذلك أن معظم محلات الكوربة غيرت نشاطها التخصصي وحدثت واجهاتها بشكل شوه تناسق الطراز المعماري الفريد للمكان، وقلة قليلة منها فقط ما زالت تحتفظ برونقها الأصلي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه على الرغم من أن محل «خريستو» يعد صغيرا من حيث مساحته، فإن ارتفاعه الكبير جعل من السهل تخزين وعرض كميات كبيرة من الألعاب فيه من الأرضية وحتى السقف.

من جهة ثانية، تجدر الملاحظة أنه ولو كانت التركيبة السكانية لسكان حي الكوربة خلال العقود الأخيرة - لا سيما بعد خروج الأجانب من مصر - اختلفت كثيرا، فإنه استطاع لفترة طويلة مصارعة عوامل الزمن من أجل الإبقاء على هويته الأصلية ومعماره الفريد.

إلى ذلك، يشير المؤرخون إلى أن البارون إمبان كان مولعا بصحارى مصر، ولقد وقع اختياره على صحراء مصر الجديدة، التي كانت تقع على بعد 10 كيلومترات من قلب القاهرة ليشيد فيها ضاحية «هليوبوليس» - أي مصر الجديدة اليوم - التي صممها المهندس المعماري البلجيكي إرنست جاسبار، لتكون مدينة للترف والرفاهية، وأدخل فيها المرافق التي كانت تعتبر حديثة في ذلك الوقت مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي.

ووضع إمبان حجر الأساس لمصر الجديدة ببنائه لقصره المنيف «قصر البارون» الذي اشترى تصميمه من المهندس الفرنسي ألكسندر مارسيل، وكان الأخير قد عرض تصميم القصر في معرض هندسي بباريس عام 1905. ويجمع القصر في تصميمه بين أسلوب عصر النهضة بالنسبة للتماثيل الخارجية وسور القصر، والطراز الكمبودي بقبته الطويلة المحلاة بتماثيل بوذا، وقد جلب رخام القصر من إيطاليا، والكريستال من تشيكوسلوفاكيا، ويشغل القصر وحديقته الواسعة مساحة 12.5 ألف متر مربع وانتهى بناء القصر عام 1911.

أما كلمة «الكوربة» فكلمة معربة من الكلمة الفرنسية (la courbe) وتعني المنحنى، حيث كان المترو يأخذ انحناءة أو انعطاف في هذا المكان خلال رحلة عودته من شارع فؤاد الأول وسط البلد - شارع 26 يوليو حاليا - فكان الكمساري (منادي الحافلة أو القطار) البلجيكي ينادي بكلمة «الكورب» فصارت اسما للمكان. وفي فبراير (شباط) 1906 أنشئت شركة «واحات هليوبوليس»، وحصل إمبان على امتياز المترو وخطين للقطار الكهربائي. وأطلق إمبان على شوارع الكوربة أسماء من الحضارة الفرعونية واليونانية مثل شارع سيتي وشارع سيزوستريس ومينيس ورمسيس. وحيث بنى البازيليك أطلق إمبان على الشارع المواجه لها اسم الأهرام، حيث إنه كان يمكن رؤية أهرام الجيزة من أعلى الكنيسة.