أدونيس.. لغتان في لغة واحدة: الشعر والتشكيل

معارض لـ«رقائمه» في باريس ودبي وميلانو

أدونيس
TT

منذ سنوات، يهتم الشاعر أدونيس بتشكيل «الكولاج» الذي يفضل أن يطلق عليه «رقائم». فهو في ذلك شأنه شأن الشعراء الكبار أمثال: بول إيلوار وجان كوكتو ورينيه شار وسان جون بيرس وغيرهم الذين لم يكتفوا بقصائدهم، بل انطلقوا في الفن التشكيلي باعتباره مادة بصرية تذهب إلى أبعد من النص الكتابي. وبذلك يقدم أدونيس إبداعا فنيا تشكيليا جديدا بموازاة منجزه الشعري المعروف: يكتب قصائد المعري وأبو تمام والنفري ووضاح اليمن وغيرهم من الشعراء بخط يده، معبرا عن رغبته في التحرر من قواعد اللغة إلى اللغة الحسية.

وعن هذا الاهتمام، سألت الشاعر في إحدى زياراتي له في مكتبه الكائن في الطابق الخامس والثلاثين، والمطل على بنايات منطقة الديفانس الحديثة في باريس، فقال لي: «بدأ اهتمامي في التسعينات عفويا دون أن أعلم شيئا عن الدوافع، إذ يتولد لدي شعور بأنني أسافر عبر الكولاج الذي أسميه (رقيمة) وكلمة كولاج قادحة ملصق أو تلصيق أو لصق وهذا غير صحيح، لذا أفضل استخدام الكليمة العربية: رقيمة التي راجعتها في (لسان العرب)، وهي تدل على (رقم) و(رقن) على الخط والتشكيل والتلوين في آن واحد».

وكان لا بد لي من طرح السؤال: هل تعتقد أن القصيدة غير كافية للتعبير عما تفكر به؟

فأجابني: «(الرقيمة) ما هي إلا قصيدة، لكن بعناصر غير كلامية، بعناصر أخرى من الحياة اليومية، ليس لها قيمة ما، يعني: خرقة قماش أو قطعة معدن أو ورقة ممزقة، أي شيء مطروح أو مرمي في الشوارع لا أحد ينتبه إليه، فآخذه وأعطيه قيمة أخرى. أضعها في إطار اللوحة وأركب منها، بالإضافة إلى الخط، قصيدة أخرى بأشياء لا يمكن أن تخطر على بال إنسان. أحيانا أقوم بالتقاط أشياء من الأرض، فينظر إلي الناس باستغراب ويضحكون في سرهم وقد يقولون: هذا مجنون! ومثلما أعطي معنى بتأليف هذه الأشياء المهملة، يصبح لـ(الرقيمة) معنى كأنك شحنت ما ليس له معنى بالمعنى. إنها قصيدة بشكل من الأشكال، بتفرغ الكلمات من شحناتها القديمة ومنها الدلالات جديدة. ولكن هناك اختلاف بين العناصر المستخدمة، عناصر كلامية وأخرى غير كلامية. ولاحظت أن ثمة تكاملا بين (الرقيمة) والقصيدة. وهذا ما شجعني باعتباره نوعا من التكامل في الإبداع الكتابي والإبداع التشكيلي. واكتشفت بعد أن أمضيت في هذا المجال فترة من الزمن، أن قصيدتي في الأساس قائمة أيضا على نوع من التشكيل، أي يلعب فيها التخطيط والهندسة والعناصر الآتية من خارج الكلام دورا أساسيا. وهذا ما زاد كم قناعتي أن عملي في (الرقائم) يكمل قصائدي».

كان عدد تلك «الرقائم» يزداد يوما بعد آخر كلما زرته، حتى غزت تلك اللوحات الصغيرة المثيرة جميع جدران مكتبه. وخطر لي أن أساله: لماذا لا تقيم لها معرضا؟ فأجابني بخجل بأنه لا يفكر بذلك في الوقت الحاضر. وبعد مرور سنوات، شاهدت تلك «الرقائم» في مكانين هما: معهد العالم العربي في باريس، وصالة هنر في دبي، ولم تتح لي الفرصة أن أراها مؤخرا في قاعة «بيلاسو رييل» في ميلانو.

قليلة هي المعارض التي تقام للكتاب والأدباء والشعراء. فمنذ المعرض الذي أقيم للكاتب الأرجنتيني جورج لوي بورخيس في مركز بومبيدو الثقافي لم أشاهد مثل المعرض الذي أقامه معهد العالم العربي للشاعر أدونيس قبل سنوات. ولا أعتقد أن مثل هذا المعرض يمكن أن يقام لشاعر آخر غيره لأن حياة هذا الشاعر ارتبطت بالثقافة العربية وتطورها عبر صيرورتها الهامة والحاسمة. وفي جزء هام منها كان مخصصا لـ«الرقائم»، ودخلت إلى قصائده باعتبارها إضافة إبداعية، تم الاعتراف بها من قبل النقاد والجمهور.

ومن خلال هذه «الرقائم»، أعطى أدونيس للأشياء المهملة والمتروكة قيما جديدة من خلال هذه اللوحات التي عمل عليها، التي لم يكن جزء كبير منها حاضرا في المعرض، بل كان منتشرا على جدران مكتبه وأدراج كتبه.

رأيت أدوات العمل على طاولة الكتابة: أصماغ وكارتونات وعلب ألوان وأقلام رسم وأقمشة متنوعة، وريش، وكل ما من شأنه أن يعينه على التشكيل؛ العصب الحيوي للفن الحديث برمته. وفي البداية كما أوحى لي أدونيس لم يكن كثير الثقة في ما يفعله إلا بعد أن أطلع عليها عددا من أصدقائه الفرنسيين، ومنهم صديقه الشاعر الفرنسي ميشال كامو، حيث شجعوه على هذا العمل الفني بل وأعطوه الثقة وأكدوا له أن ما يقوم به لم يسبقه إليه أحد، فـ«الرقائم» عبارة عن عمل تشكيلي لا وجود لمثله في الغرب. هناك من الشعراء من عمل الكولاج مثل جاك بريفير وشعراء غيره، لكن عملهم كان على طريقة الرسامين؛ كما فعل ماتيس، لكن هذا المزج من العناصر المتعددة والمتباينة والمتناقضة بالإضافة إلى الخط العربي، هو الذي يعطي لـ«رقائم» أدونيس منحى آخر في التميز والتجديد.

وشأنه شأن المبدعين الكبار، فهو يتردد في عمله الإبداعي، فقلت له: كيف تقول إن لا ثقة لك في هذه «الرقائم» الفنية التي تقوم بها؟ تأمل وهو يدخن سيجاره، قائلا: «إنني قليل الثقة جدا بكل ما أفعله، شعرا ونثرا وأي شيء. لدي شعور شخصي بأن كل ما أفعله في جميع الميادين ما هو إلا تجربة البداية الصحيحة، وأشعر بأنني لم أصل بعد إليها».

هناك جانب آخر من هذه التجربة، وهو أن أدونيس لم يعرض كل ما لديه من «رقائم» فنية بل عرض منها نحو 40 «رقيمة» اختارها الفنان المغربي إبراهيم العلوي، المشرف على المعارض في معهد العالم العربي. كما قام عدد من الرسامين وأكملوا عمل أدونيس الشعري والفني. وهم إما أصدقاء تعاون معهم الشاعر الكبير في كتب فنية نادرة، وإما فنانون قدموا أعمالهم كتحية إلى الشاعر مثل الفنان الفرنسي المعروف سولاج، من جيل كبار الفنانين الفرنسيين، وغيلوكوفيتش، وكريستيان بوييه.. وغيرهم. والباقون أصدقاء الشاعر الذين أحبوا أن يشاركوا بأكثر من عمل مثل زياد دلول وضياء العزاوي وفريد بلكاهية وكمال بلاطة وشفيق عبود في رسم كتبه، وتقديمها تشكيليا، بينما استوحى فنانون آخرون من أعمال الشاعر أمثال الفنان جعفر كاكي وغيره.

* الرؤية البصرية.. أفق القصيدة

* انتقلت نحو 51 من «رقائمه» إلى صالة هنر بدبي، وأقيم له معرض هام، تحت عنوان «مقامات أدونيس»، حيث منح الجمهور قراءة مفتوحة من خلال النص والصورة. وهنا نتساءل: هل يكتب أدونيس القصيدة كما يرسم اللوحة؟

لم يكن الشاعر يرسم معتمدا على أفكار نمطية جاهزة، لأن «رقائمه» تتوفر على قدر كبير من العفوية، لأنها تمنحه حرية حركة اليد، وما فيها من مهارات غير مكتشفة، لغة حسية يقودها الشاعر في غابة الأشياء المهملة من خلال استعادتها ومنحها قيمة فنية. وما يستهوي الشاعر في هذه «الرقائم» هو تجواله في عالم ملموس، لا يشعر معه بالملل، يعوض عن تجربته الذهنية في كتابة القصائد. يحاول الشاعر أن يصقل الأشياء العادية، مشيدا منها رؤيته البصرية للنص، أي بمعنى من المعاني، يلون النص من خلال الدمج بين الكلمة والصورة والمادة وكأنه يكتب قصيدة أخرى من خلال أخشاب وحصى وأوراق مهملة وقطع قماش قديم، وخيوط، وقطع من الحديد الصدئ وأبيات شعرية وخطوط! لا يستخدم أدونيس قصائده في هذه اللوحات، بل قصائد الآخرين: المتنبي وأبو العلاء المعري وأبو تمام والنفري وغيرهم على أسس جمالية بحتة. وحسب الشاعر، فإنه لا يترجم الشعر عبر الأشكال، وارتباطاتها المعنوية. فهو يعبر عن اختيار معرفي لعيون الشعر العربي، وما يتخلله من بذور إبداعية وتمردية عميقة تتفق مع رؤية الشاعر. هو يجعلنا نعود إلى زمن المتنبي، ونربط بين زمنين: ماض وحاضر، بين فنين: شعر ورسم. نلاحظ العمل اليدوي في كل شيء في كتابة القصيدة المستخدمة في لوحته، بالإضافة إلى الأشياء التي ادخرها وجمعها وتآلف معها بلمس اليد، ويقول: «لا أميز بين الصورة والكلمة.. لأن الشعر موجود في كل الفنون».

هل يقول أدونيس شيئا من خلال «الرقائم» لم يتمكن من قوله عبر القصيدة؟

ولا يتردد في الإجابة، بقوله: «إذ كان الشعر نوعا من الدخول إلى النفس، فـ(الرقيمة) هي نوع من الخروج منها، ومن هنا يتكامل العالمان». في هذه «الرقائم»، نجد ألوان اللوحة، وفي رؤية أدونيس: «اللون دليل غنى عند الفنان، تماما كالشاعر الذي يجب أن يتميز بغنى كلامه وغنى تجربته».

* قصائد غير مقروءة

* بعد باريس ودبي، انتقلت «رقيماته» إلى صالة «بلازو رييل» في ميلانو التي تقيم لأول مرة معرضا تشكيليا لأدونيس يضم «رقائم» لمجموعة من الأعمال الفنية التي أنجزها الشاعر في العامين الأخيرين. وأدونيس أول فنان عربي يعرض في هذا المبنى العريق الذي احتضن معارض لكبار الفنانين مثل غويا، وكارافاجيو، وبوتيرو، وبيكاسو، وديكوننغ، وهوبر، وغيرهم. ويشارك في المعرض نفسه الفنان ماركو نيريو روتيللي، وهو أحد أشهر فناني الحداثة الإيطاليين ممن عملوا حول تقارب اللغة الشعرية ولغة الفن التشكيلي منذ سنوات.

قدم أدونيس مجموعة من «الرقائم» بأحجام مختلفة، ساعيا أن يجد بين الشعر والفن التشكيلي لغة مشتركة. استطاع أدونيس أن يجعل هذه «الرقائم» تتقاطع بين الشعر والرسم. تجربة مثيرة كما وجدها الإيطاليون، وخصصوا لها مقالات كثيرة. وهذا ما لا يمكن أن يقوم به إلا الشاعر الشامل، الذي يخلق صورة متعددة الوجوه من خلال تركيب الكلمات والألوان، عبر تفكيكها وإعادة صياغتها من جديد: فهو يحول الأشياء إلى مفاهيم، والتجريد إلى ملموس.

* تداخل الفنون

* في تجربة «الرقائم»، يقدم لنا أدونيس عالما غنيا، وذلك ما أكده بقوله: «الفنون متداخلة وهذه مسألة يجب أن ينتبه إليها الشعراء والكتاب العرب، لأنه عادة ما تعودنا أن ليس هناك أي علاقة ولا أي تفاعل بين الشعر والرسم والموسيقى إلا على مستوى الأغنية».. والسؤال المطروح هنا، هل نحن بحاجة إلى هذا التداخل من أجل أن نصل إلى عصر الحداثة التي نراها تتجلى في الآداب الغربية؟ يجيب أدونيس: «أجل، نحن بحاجة إلى هذا التداخل في كتابتنا العربية المعاصرة». والمعروف أن هذا جانب من جوانب الحداثة، وعلى الخصوص عن الشعراء الذين يتحدثون عن الحداثة ولا يمارسون الأصول الحقيقية التي تجعل من هذه الكتابة تصل إلى الحداثة، وهي معانقة العصر والانفتاح عليه. وهذا ما يؤكده أدونيس بقوله: «حتى المركبة الفضائية التي تصل إلى القمر ليست معزولة علميا عن أول دولاب اخترعه السومريون. إذا لم ترَ في المركبة الفضائية الدولاب السومري فأنت لست حداثيا. كيف تتداخل الأزمنة وتتداخل معها الأمكنة أيضا؟ وهذه النظرة الكلية الشاملة تنقصنا وللأسف. لا يمكن أن نقرأ غوتة، أسمي أجانب لا أسمي عربا، ما لم نقرأ معه كل عالم الحضارة الإسلامية التي يتحدث عنها. لا يمكن أن ترى أوروبا دون أن تراها من خلال الأندلس. إنني أنظر إلى تشابك الأزمنة وتداخلها، الماضي والحاضر، ومثلما أصبح العالم قرية صغيرة، من باب أولى أن يكون الزمان موحدا أيضا».

هذه الرؤية الشمولية هي التي تميز أدونيس عن بقية الشعراء العرب فهو التراثي الكبير والحداثي الكبير أيضا. ولا تعني الحداثة مجموعة من الجمل، بل هي العالم الذي يشكله الشاعر. وربما لجوءه إلى عالم التشكيل و«الرقائم» هو جزء من هذه النظرة الكلية والشمولية للعالم. وأدونيس، شاعر يؤمن بالحرية والتنوع والتعدد، وهذا ما يتطلب مستوى رفيعا وموهبة ضخمة.

وفي النهاية، قد يتساءل البعض: لماذا يلجأ أدونيس إلى فن الكولاج الذي يعود تاريخه إلى عشرينات القرن الماضي وظهوره على أعقاب مدرستي الدادائية والسريالية؟ يجيبنا الشاعر: «إنها تحية إلى نصوص الشعراء التي ضمتها هذه (الرقائم)». مما لا شك فيه، إن الإقامة في مدينة مثل باريس، مليئة بالرؤى البصرية في كل مكان، لا تجعل الشاعر لا مباليا لما يحرك الإبداع والمدينة في رؤية حداثية هو جزء منها.