نباتات عشبية لإنتاج عقاقير مضادة للأمراض السرطانية

الكرفس والكزبرة واليانسون والكمون على مائدة البحث العلمي

نبات «ثافسيا» هو من العائلة الخيمية، وهي في معظمها نباتات عطرية مع سيقان مجوفة، وتتجمع أزهارها في نهاية الأفرع على شكل مظلة أو خيمة، ويبلغ ارتفاعها من 50 إلى 200 سنتيمتر
TT

هو نبات عشبي معمر مزهر، اسمه العلمي «ثافسيا غارغانيكا» (Thapsia garganica)، ويسمى بالإنجليزية (smooth thapsia)، وبالفرنسية (Thapsia)، ويعرف عند العرب، وبخاصة في المغرب العربي حيث يكثر وجوده، باسم «الدرياس» أو «درياس»، حيث ينتشر في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، وقد ذكره عالم النبات والصيدلة العربي الشهير ابن البيطار، في مؤلفاته الطبية، وأطلق عليه اليونانيون القدماء اسم «الجزرة المميتة» (deadly carrot)، لأن بعيرهم أكلته وماتت سريعا؛ فهو شديد السمية؛ نظرا لاحتوائه على مادة كيميائية سامة للغاية.

ولكن في الآونة الأخيرة بدأ هذا النبات ذو الزهرة الصفراء الجميلة، في الظهور على مائدة البحث العلمي، حيث يقول العلماء إنه يمكن أن يكون مفتاحا للجيل القادم من العقاقير المضادة للسرطان، إذ إنهم على وشك استخدامه في التجارب السريرية (الإكلينيكية) على مرضى السرطان.

ونبات الدرياس أو ثافسيا، هو من العائلة الخيمية (Apiaceae - Umbelliferae)، وهي في معظمها نباتات عطرية مع سيقان مجوفة، وتتجمع أزهارها في نهاية الأفرع على شكل مظلة أو خيمة، ويبلغ ارتفاعها من 50 إلى 200 سنتيمتر، ومن أشهر نباتاتها: الجزر والمقدونس والكرفس والكزبرة واليانسون والكمون، وهي عائلة كبيرة، حيث تضم أكثر من 3.700 صنف، و434 جنسا. وقد ذكر الطبيب اليوناني ديسقوريدوس (40 - 90 ميلادية تقريبا) نبات «ثافسيا» في كتابه الشهير في النباتات الطبية بعنوان (de Materia Medica)، حيث يقول إن اسم «ثافسيا» مشتق من جزيرة ثافسوس اليونانية، أما «قارقانيكا» فهي نسبة إلى جبل غارغانو في إيطاليا، وقال عالم النبات والصيدلة العربي ابن البيطار (1197 - 1248م) المولود في مدينة مالقة بالأندلس، إن اسمه هو اسم بربري للنبات الذي يسمى باليونان «ثافسيا» وعرب المغرب يقولون عليه «الدرياس»، ويعرف بهذا الاسم حتى يومنا هذا، ويستخرج من الدرياس الصمغ.

وقد قام العلماء في تجارب أولية بعزل المركب الكيميائي النشط في نبات «ثافسيا»، وهو مركب (Thapsigargin)، ويعرف كدواء صناعي مساعد باسم (G202)، وقد استطاعت شركة (Genspera) ومقرها سان أنطونيو بولاية تكساس الأميركية، والمتخصصة في تطوير أدوية ذات كفاءة لعلاج الأورام، من تطوير هذا الدواء والتوصل لطريقة فعالة للسيطرة عليه وتوجيهه بدقة خلال مروره في الدم حتى وصوله إلى الهدف المطلوب، ونشاطه فقط داخل الورم مباشرة.

وحاليا تجرى تجارب على هذا الدواء، في كل من: مركز سيدني كيميل الشامل للسرطان بجامعة جونز هوبكنز الأميركية، ومركز كربوني للسرطان بجامعة ويسكونسن الأميركية، ومركز العلوم الصحية لجامعة تكساس في مركز علاج وأبحاث السرطان في سان أنطونيو.

ووفقا لما نشر بمجلة «نيوساينتيست» البريطانية العلمية الأسبوعية الشهيرة، في عدد 28 يونيو (حزيران) الماضي 2012، فإن نبات «ثافسيا» المميت يمكن أن يكون له استخدامات كثيرة، منها استهداف وقتل الخلايا السرطانية، ويكمن التحدي في إمكانية تسخير هذه المادة السامة ودفعها إلى قتل الخلايا السرطانية فقط، وترك الخلايا السليمة. وقد قام بهذه المهمة الدكتور صموئيل دينميد، أستاذ علم الأورام بجامعة جونز هوبكنز الأميركية، ومستشار علمي ومؤسس مشارك لشركة (Genspera)، حيث أمضى 15 عاما مع فريقه البحثي الدولي، المكون من 16 باحثا، لدراسة مركب (Thapsigargin) النشط في نبات «ثافسيا»، وذلك للتمكن من استخدامه لمحاربة الخلايا السرطانية. وقد أظهرت أبحاثهم أن دواء تجريبيا يعتمد على هذا المركب، كان قادرا على علاج الأورام في الفئران، كما كان نسبيا غير سام، وقد نشرت نتائج دراستهم في عدد 27 يونيو 2012، بمجلة (Science Translational Medicine) التي تصدرها الرابطة الأميركية لتقدم العلوم، والتي تعرف اختصارا بـ(AAAS).

وفي تصريح علمي في 28 يونيو الماضي 2012، على الموقع الإلكتروني لشركة (Genspera) ((www.genspera.com، قال سورين كريستنسن، البروفسور في جامعة كوبنهاغن الدنماركية، وعضو اللجنة الاستشارية العلمية للشركة، وأحد المشاركين في الدراسة: «لقد بدأنا دراسة الخصائص الطبية لنبات (ثافسيا) في عام 1970، وكانت مجموعتنا البحثية هي أول من عزل المادة الفعالة فيه، ووضحت بنيتها الكيميائية، وتبين لنا أنها تقتل الخلايا السرطانية من خلال منع محدد لضخ الكالسيوم داخل الخلايا. ونعتقد أن هذه المادة الفعالة يمكن أن تصبح أكثر فعالية من العلاج الكيميائي، في علاج مجموعة واسعة من الأورام البشرية».

وقال البروفسور جون إيزاك، أستاذ علم الأورام في مركز سيدني كيميل الشامل للسرطان بجامعة جونز هوبكنز، وعضو المجلس الاستشاري العلمي للشركة، والمشارك في الدراسة: «لقد تمكنا من هندسة قنبلة جزيئية من المادة الفعالة في نبات (ثافسيا)، وتم نقلها مباشرة إلى الورم وتقديم نشاط عال مضاد للسرطان، وإطلاق قدرتها العلاجية في موقع السرطان، ونشعر بالفخر بنتائجنا الرائعة على عدة نماذج سرطان بشرية في الفئران، ونتطلع إلى نتائج الدراسة الإكلينيكية الحالية على البشر».

ويقول الفريق البحثي إن مركب (Thapsigargin) الكيميائي النشط، في نبات «ثافسيا» يعمل عادة من خلال تمريره عبر أغشية الخلايا السرطانية لإغلاق مضخات الكالسيوم في داخلها، التي تعد ضرورية لحياة الخلية، فهذا المركب يقتل الخلايا بما في ذلك الخلايا السرطانية، عن طريق منع بروتين يسمى (SERCA)، الذي يساعد الخلايا على التحكم في مستوياتها الداخلية من الكالسيوم.

ولصناعة الدواء التجريبي، قام الفريق البحثي بتعديل جزيء المركب الكيميائي النشط في نبات «ثافسيا»، وذلك من خلال إضافة سلسلة «ببتيد» (peptide) (سلسلة أحماض أمينية) إليه، لمنع السم من دخول الخلايا. وهذا الـ«ببتيد» سوف يتم سحبه فقط بواسطة إنزيم يسمى (PSMA)، وقد وجد بتركيزات عالية على سطح الأوعية الدموية التي تغذي الخلايا السرطانية، فعندما يتصل الـ«ببتيد» مع إنزيم (PSMA) سوف يتم إطلاق مركب (Thapsigargin) وقتل الخلايا مباشرة.

والدواء الجديد، يعد اختصاصيا، فهو ليس فقط لتدمير الخلايا السرطانية، ولكن أيضا لتدمير الخلايا السرطانية النائمة، وكذلك الخلايا غير السرطانية، التي يمكن أن تساعد على نمو الورم.

يقول الفريق البحثي إن نتائج الدراسات الواسعة لهذا الدواء على الحيوانات كانت واعدة، بما فيه الكفاية، وفي الوقت الحالي، يتم الانتقال إلى المرحلة الأولى من التجارب السريرية على المرضى، وسيكون التركيز أولا على سرطان البروستاتا.