نصير شمة: واجب كل فنان عراقي أن يكون في بغداد

حلم العودة يراود الموسيقيين العراقيين

الموسيقار العراقي نصير شمة خلال حفل موسيقي ببغداد مؤخرا (رويترز)
TT

كان عدد الحفلات الموسيقية في أمسية واحدة يصل إلى 15 حفلا، لدرجة أن الاختيار بينها كان قرارا صعبا، وكانت الحياة تدب في أوصال العاصمة العراقية بغداد مع دقات الطبول ونغمات أوتار العود. لكن هذا كان زمنا بعيدا انقضى، فقد فرّ كثير من أمهر العازفين من العراق خلال حكم الرئيس الراحل صدام حسين خوفا من التعرض للاضطهاد بسبب آرائهم السياسية ولقلة الموارد المالية إذا هم رفضوا استخدام فنهم في تمجيد القائد. وخرج آخرون من البلاد بعد الغزو الأميركي عام 2003 هربا من العنف الذي اجتاح العراق وأدى إلى توقف الحفلات الموسيقية وبعد أن تلقى بعضهم تهديدات من الذراع العراقية لتنظيم القاعدة، ولقي الفنان داود القيسي الذي كان نقيبا للفنانين على أيدي مسلحين بعيد الاحتلال الأميركي للعراق.

أما الآن فقد بدأ بعض العازفين يخططون بتؤدة للعودة أملا في إحياء التراث الموسيقي العراقي الثري على أرض العراق.

وقال عازف العود العراقي المعروف نصير شمة على هامش حفل في بغداد هو الثاني له في بلاده منذ ما يقرب من 20 عاما قضاها في المنفى: «لا يبدو هذا غريبا الآن. يتصلون بي ويبعثون إلي برسائل يسألونني عما شاهدته، وأنا أقول نعم، هذا وقت العمل لمساعدة الشعب العراقي. طبعا من واجب كل عازف عراقي أن يكون هنا».

بدأ شمة (49 عاما) العزف على العود وهو في سن الحادية عشرة، وهرب من العراق عام 1993 إلى تونس بعد أن تحدث علانية عن انتهاكات حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية في ظل حكم صدام، وانتهى به الأمر إلى السجن. أما الآن فإن شمة يعيش في القاهرة.

وأوضحت إجراءات الأمن التي اتخذت في حفل شمة بأحد الفنادق الفاخرة في المنطقة الخضراء المحصنة بالعاصمة العراقية أن طريق النهوض بالموسيقى في العراق ما زال طويلا.

واضطر جمهور من المسؤولين في الحكومة العراقية والموسيقيين والصحافيين تأنقوا جميعا لهذا الحفل للمرور عبر عدة نقاط تفتيش حتى يتمكنوا من الوصول إلى القاعة التي أقيم فيها الحفل، بل وتحملوا تفتيشا بالكلاب المدربة.

واصطف حراس مسلحون حول القاعة عندما خفتت أضواؤها، وكان بعضهم يدق الأرض بقدميه سرا على وقع الموسيقى.

وقاد شمة بعوده الفرقة الموسيقية التي ضمت عازفين للكمان والأكورديون والفلوت وآلات نحاسية والطبول في أغنية رومانسية هادئة. ومع تزايد سرعة الإيقاع في مقطوعات أطول وأكثر مرحا اعتمدت على إيقاع الطبول انطلق تصفيق كثير من الجالسين في القاعة الذين بلغ عددهم 300 شخص مع النغمات.

وقال شمة إن حفلات مثل حفله الذي استمر ساعتين ونظمه اتحاد الصحافيين العراقيين، تعيد الروح للحفلات الموسيقية في البلاد رغم أن الترتيبات ليست مثالية. وفي وقت سابق من العام الحالي عزف شمة في حفل مماثل خلال اجتماع للقادة العرب.

وأضاف شمة: «لكني أحب العزف في مناطق شعبية، ليس مثلما هو الحال هنا في وجود الكثير من إجراءات الأمن في الخارج. أريد أن يأتي أصدقائي والشباب. وأفضل قاعات الحفلات الأصغر حجما لأنها تقرب المسافة (بين الفنان والجمهور) وتكون المشاعر أعمق».

ويأمل أن يعود في حفل مماثل في العراق خلال شهر رمضان، كما أنه يخطط لافتتاح مدرسة للعود بنهاية العام الحالي بمنزل قديم في بغداد.

أما الفنان العراقي عازف الساكسفون حميد البدري، وكان ضمن الفرقة الموسيقية، فيرى أن مجرد إقامة الحفل في فندق فاخر شيء يدعو للارتياح. يقول البدري الذي كان يرتدي ملابس سوداء بالكامل: «غادرت العراق قبل عشر سنوات لأن (القاعدة) حاولت أن تقتلني لأنني فنان. الموسيقى بالنسبة لهم حرام». ويضيف: «الآن اختلف العراق، وهذا شيء جميل. هذه أول مرة أعزف فيها هنا منذ سافرت».

وبعد عدة ليالٍ غنت المغنية الثورية التونسية آمال المثلوثي في نادٍ اجتماعي بالعاصمة أمام جمهور من الدبلوماسيين والمسؤولين العراقيين والمدرسين في حفل نظمه المعهد الفرنسي.

وقال طارق صفاء الدين رئيس نادي العلوية إن هذا الحفل كان من أكبر الحفلات من نوعه في النادي خلال السنوات العشر الأخيرة. وتقيم فرق صغيرة حفلات للموسيقى الشعبية العراقية كل أسبوع في حديقة النادي الذي تأسس عام 1924. وقال صفاء الدين: «هذا هو ما يحدث في العامين الأخيرين، أما قبل ذلك فكان الوضع مثلما هو في العراق. لم يكن أحد يأتي للنادي». وأضاف أن حفل المثلوثي هو بداية لعصر جديد في الحفلات الموسيقية الحية في بغداد.

وصاحب كمان حزين صوت المثلوثي القوي وهي تغني باللهجة التونسية، بينما صاحبت الأضواء البراقة دقات الطبول والآلات النحاسية، وتمايل جمهور الحاضرين يمنة ويسرة على مقاعدهم وهم يهزون الرؤوس طربا.

وقبل اختتام الحفل بإيقاعات تراثية على وقع رنين الصنج قفز عدد من الحاضرات إلى ممر في القاعة وانطلقن يؤدين رقصة كردية على تصفيق جمهور الحاضرين، بينما كان عدد من الأطفال الصغار يتنقلون من مقعد لآخر.

وقالت عراقية تدعى صابرين قفزت إلى المسرح للتحدث مع المغنية عقب الحفل: «كلمات الأغاني ضد الخوف وضد الديكتاتورية، والدعوة للحرية والحياة الكريمة.. نحن نفتقد مثل هذه الأغاني في بغداد هنا»، وأضافت: «يا عراقيون، يا بغداديون، نحن بحاجة إلى مثل هذه الموسيقى ذات الإيقاع المتفائل».

وما زالت الحياة في العراق تحمل في طياتها الكثير من المخاطر رغم تراجع العنف الطائفي الذي قتل عشرات الآلاف عامي 2006 و2007. وفي الشهر الماضي قتل 237 شخصا على الأقل وأصيب 603 في أعمال عنف أغلبها تفجيرات حسب إحصاءات «رويترز»، ليصبح يونيو (حزيران) من أكثر الشهور دموية في العراق منذ انسحاب القوات الأميركية في نهاية العام الماضي.

ولا يسع بعض الموسيقيين العراقيين الصغار من أمثال عازف البوق فراند نشأت ذي الثمانية عشر عاما سوى الحلم بالأجواء الموسيقية البوهيمية التي يصفها له أقرانه الأكبر سنا الذين عرفوا الحياة في بغداد القديمة.

يقول نشأت الذي كان يرتدي قميصا كتب عليه «بيتهوفن»، حصل عليه في رحلة حديثة إلى ألمانيا مع أوركسترا الشباب العراقي: «اعتدنا عليها لأننا لم نعزف بحرية. عندما عزفت في حفل للمرة الأولى كان الحفل مؤمنا جدا مع وجود الكثير من أفراد الأمن. ولهذا يبدو ذلك عاديا لي». ويضيف أنه ما زال من الصعب التنقل بالآلات الموسيقية في المدينة، وخصوصا عبر نقاط التفتيش.

يقول: «كثيرون يسألونني ما هذا، فهو يبدو مثل صندوق غريب. كان هذا صعبا في الأيام السابقة، أما الآن فالوضع أكثر أمنا».

ويقول نشأت الذي يعزف أيضا مع عازفين كبار في الأوركسترا السيمفوني الوطني ويعزف موسيقى الجاز منفردا ومع مجموعات صغيرة من أصدقائه، إن غالبية الحفلات تقام في فنادق وقاعات مؤمنة في بغداد أو في مدينة أربيل في إقليم كردستان العراق، وإن هذا النشاط مزدهر. واستطرد: «ذات مرة أقمنا حفلا امتلأ عن آخره بالناس حتى إنهم اضطروا إلى الوقوف على السلم».

ومع ذلك لم يكن لتراجع حدة العنف أثر حتى الآن على نشاط فراك محمد حسين صانع العود ذي السبعين عاما، الذي يقضي ما يصل إلى أربعة أشهر في صناعة العود الواحد يدويا.

يقول حسين الذي يعزف العود ويصنعه منذ 50 عاما: «الآن أبيع القليل جدا من العود. ربما واحد في الشهر». وقبل الغزو عام 2003 كان يبيع ثلاثة أو أربعة أعواد في الشهر. ويضيف في ورشته الصغيرة التي تكتظ بالأدوات وعشرات الصور لعازفين عراقيين: «عندما جاء الأميركيون للعراق لم تعد هناك حفلات ولا غناء. الآن لا يشتري العود سوى قلة من الطلبة والأساتذة».

أشار حسين إلى صورة قديمة له بالأبيض والأسود من عام 1959 وهو يرتدي حلة سوداء ورابطة عنق ويحتضن عوده، موضحا أنها تمثل له أوج أيام بغداد في الموسيقى. ويروي حكايات عن زمن كان العازفون والمطربون يتجمهرون فيه في ورشته السابقة الأكبر ويعزفون. وكانوا يشترون العود منه ومن أشقائه الثلاثة الذين يعملون بصناعة العود لكنهم هجروا العراق.

يقول حسين: «العود حضارة عراقية. وبإذن الله سيعود الأمان في المستقبل للعراق. فبوسع العراق الآن أن يشم نسيم الحرية».