الفنانة اليابانية شيهارو تعرض أثوابها العملاقة في فرنسا

شاركها فيها فنان تونسي باستخدام 600 كيلومتر من خيوط مصنوعة في كوسوفو

الفنانة اليابانية أثناء العمل
TT

تحت عنوان يشبه عناوين الروايات أو دواوين الشعر، هو «متاهة الذاكرة»، تقدم الفنانة اليابانية شيهارو شيوتا عملا ضخما ومثيرا في صالة «لا سوكريير» التي تستضيف، عادة، بينالي مدينة ليون، إلى الشرق من وسط فرنسا.

«المتاهة» يكاد يكون اسما على مسمى، فهو ليس لوحة أو منحوتة، بل من نوع ما يسمى بـ«التجهيز» (installation) ويمتد على مساحة 1700 متر مربع، في الطابق العلوي الأول للمبنى. إنها عوالم ضبابية تتراوح بين الأبيض والرمادي والأسود، تتخللها أثواب طويلة ذات نسيج متناسل، معلقة في أرجاء القاعة التي دهن سقفها باللون الأسود، وكأنها أرواح أو أشباح تسبح في الفضاء. لقد نسجت الفنانة دنياها الماورائية الخاصة وقررت أن تأخذ بيد المتفرج وتقوده إلى أرض الأحلام أو الأكفان تلك.

يتألف التجهيز من 16 ثوبا شبحيا بطول 6 أمتار لكل واحد، يخيل إلى الناظر أنها تتحرك بشكل انسيابي مثل أصابع ساحرة غامضة تشير إلى ما في دواخل البشر من هواجس أو تساؤلات أو هلوسات. ومن المؤكد أن الفنانة اليابانية تعتمد في إبداعها على حرفة النسيج، مثلما كان حالها في «بعد الحلم»، وهو العمل الآخر الذي سبق أن عرضته في باريس، العام الماضي.

شيد مبنى «لا سوكريير» على ضفة نهر السون في ليون في ثلاثينات القرن الماضي ليكون مخزنا للبضائع والغلال مؤلفا من أربع طوابق. وبعد 80 عاما أوشك على التداعي فكُتب له عمر جديد. لقد قررت بلدية المدينة صيانته وتأهيله ليصبح المكان الذي يستقبل المعرض الدولي الكبير للفنون المعاصرة الذي تستضيفه ليون مرة كل سنتين، وهو من أبرز الفعاليات الفنية في أوروبا.

عثر عمل شيهارو شيوتا على المكان المناسب لعرضه. إن «متاهة الذاكرة» هي دعوة للتأمل في مفهوم الزمن المعلق. فهذه الفنانة المولودة في أوساكا عام 1972 تأثرت بفنانين من أمثال النحات والمصور الفرنسي كريستيان بولتانسكي الذي مال، في فترة متأخرة، إلى التجهيزات. وكذلك بأعمال الفرنسية آنيت ميساجيه التي تمزج في تجهيزاتها بين أشكال متعددة للتعبير الفني كالتصوير والتشكيل. هذا دون نسيان الإعجاب الذي تحمله شيهارو لأعمال الفنان الجنوب أفريقي وليم كنتريدج. لقد درست الفن ما بين طوكيو ونيويورك وبرلين، العاصمة الألمانية التي استقرت فيها منذ 1996. ويقول المشرفون على الصالة إن مشاهدة الفنانة اليابانية وهي تنصب أو تركب أجزاء تجهيزها تشبه رؤية بطل رياضي يمارس الإحماء قبل مباراة مهمة، بالكثير من التركيز والتصميم. إن هذه المرأة الضئيلة القد تكشف عن قوة عضلية وروحية عميقة حين تشمر عن ذراعيها وتدخل ميدان العمل.

تميل الفنانة إلى المنحوتات البيضاء الواقعة في براثن نسيج عنكبوتي أسود، وهي تكرر ذلك، مرة بعد مرة، وكأنها تستلهم أسطورة بنيلوب الإغريقية التي ظلت تنسج قميص الانتظار لعودة حبيبها عوليس من وراء البحار، ثم تفك الخيوط لتعيد نسجها من جديد. وفي واحدة من تصريحاتها القليلة قالت شيهارو إن «الثوب هو جلدنا الثاني ويحدث أحيانا أنه يعبر عنا أكثر مما تعبر جلودنا ذاتها. إن كل شيء يكمن داخل الجسم: العائلة والشعب والأمة والدين».

ولكن لماذا رسمت الفنانة أثواب عملها بمقاسات تفوق كثيرا مقاسات الإنسان العادي؟ هل أرادت القول إن الأرواح أرحب من الأجساد؟ لقد أوكلت مهمة إعداد الأثواب إلى الفنان التونسي منجي قيبان الذي استخدم أكثر من ألف متر من القطن الحريري لإنجازها. وبعد تعليق الأثواب الفارغة في فضاء القاعة بدأت شيهارو عملية النسج منطلقة من الأرض والجدران صعودا إلى فوق. وبمساعدة 21 معاونا ألصقت الحافات بمادة غرائية بإسمنت الأرضية لكي تتفادى تكبيسها بدبابيس معدنية. واستغرق الأمر أسبوعين لنسج 600 كيلومتر من الخيوط السوداء، أي 6000 كبابة من الصوف الصناعي المصنوع في كوسوفو لحساب شركة ألمانية، والذي يتميز بأنه أمتن من الصوف الطبيعي وأرخص تكلفة. أما الروعة الحقيقية للعمل الذي يستمر عرضه حتى آخر الشهر الحالي فتأتي من التلاعب بالضوء الذي جعل المكان يتلألأ مثل ليلة مقمرة.