فضيحة «الأعضاء الحيوية» المزروعة في ألمانيا تتوسع

شكوك حول صفقات بيع سرية وقضايا قتل «غير عمد» مرتكبوها أطباء

فحسب معهد استطلاعات الرأي المعروف «فورسا» قالت نسبة 75 في المائة من الألمان إنهم على استعداد للتبرع بأعضائهم الحيوية بعد موتهم
TT

تعيش جمهورية ألمانيا الاتحادية عموما، والقطاع الصحي خصوصا، أكبر فضيحة «طبية» من نوعها منذ جرائم الحرب التي ارتكبتها النازية قبل انتهاء الحرب لعالمية الثانية. ومن جديد يقف الأطباء، كما وقف أطباء هتلر الذين أجروا تجاربهم على البشر مثل فئران المختبرات، في قفص الاتهام.

والقضية تدور حول التلاعب بأحقية الناس في نيل الأعضاء الحيوية المزروعة، وصفقات سرية للأطباء مع أثرياء نالوا بالرشى مواقع الأفضلية في نيل القلوب والكلى المتبرع بها. ضمن التهم الموجهة إلى الأطباء أيضا تهمة تزوير نتائج مختبرات طبية تبريرا لتفضيل بعض المحتاجين للأعضاء على غيرهم، بل وحتى تهمة قتل بعض المرضى بغية الحصول على أعضائهم الحيوية.

القضية تبدو هنا مثل قصة فيلم هوليوودية، لعب فيها ستيوارت وايتمان في السبعينات دور طبيب يوقع به ثري طمعا في نيل قلبه القوي، وفيلم مثل فيه مايكل دوغلاس ويكشف عن عصابة للاتجار بالأعضاء الحيوية تتخذ من مستشفى مكانا لتجارتها. لكن القصة الألمانية حقيقية، وتحقق النيابة العامة في ملابساتها، مع وجود تقارير صحافية رصينة تتحدث عن توسعها لتشمل رؤساء مستشفيات.

تركزت الفضيحة الأخيرة حول أحد أهم مراكز التبرع بالأعضاء، وأهم غرف عمليات زراعة الأعضاء في مدينة غوتنغن الشمالية. وتحدثت صحيفة «فرانكفورتر الجيماينة» المعروفة مؤخرا عن وجود مؤشرات عن التلاعب في هذه الصالات في غوتنغن منذ منتصف التسعينات. ودارت القضية في التسعينات حول ملابسات في عمليات زرع الأعضاء الحيوية في المصح الطبي التابع إلى جامعة غوتنغن، حيث يفترض أن العاملين هناك رصدوا حصول عمليات جراحية لزرع أعضاء أكثر مما هو معلن في جدول المصح. وتشير إحصائية المصح إلى 50 عملية زرع عام 1993، في حين تشير إحصائيات أطباء عاملين هناك إلى 75 عملية. إحدى عمليات زرع الكبد كلفت 150 ألف يورو ويبدو أن «مكافأة» الطبيب كانت ضمنها، لأنها مسجلة كتبرع حسب «اتفاق مسبق مع المريض».

تحدثت الجريدة المذكورة، من مصادر اللجنة التحقيقية التي شكلتها نقابة الأطباء الألمان، عن 119 حالة مشتبه بها منذ عام 1999. والغريب في هذه العمليات، حسب «فرانكفورتر الجيماينة»، هو أن نصف المتبرعين كانوا من إيطاليا. علما بأن القانون الألماني، منذ 2005، صار يمنع ارتفاع نسبة المتبرعين الأجانب بالأعضاء الحيوية على 5 في المائة. المهم أيضا هو وجود شكوك حول عدم ملاءمة كل الأعضاء، التي تم التبرع بها، لإعادة الزرع، وتولى بعض الأطباء تزوير المعطيات المختبرية التحليلية بغية «تسهيل الأمور».

بدأت الفضيحة قبل شهر بسبب مكالمة من مجهول، مع مركز تنسيق وتوزيع الأعضاء الحيوية في فرانكفورت، سأل فيها عن إمكانية «شراء» الأعضاء الحيوية من مركز غوتنغن، فالمركز يتولى توزيع الأعضاء المتبرع بها إلى المتلقين الذين ينتظرون أدوارهم. وهذا سلط الضوء على عمليات بيع سرية تتم بين الأطباء والمتلقين من أثرياء الناس الذين يخشون عدم وصول الدور إليهم.

بعدها أعلنت عيادة لزرع الأعضاء في ولاية الراين الشمالي فيستفاليا، لم تكشف النيابة العامة عن اسمها، أنها تلقت مكالمة من زوجين روسيين عرضا على الأطباء مبالغ كبيرة مقابل الحصول على كبد جديدة. ورفضت المستشفى الخضوع إلى الابتزاز، حسب مصادر النيابة العامة.

وتشي إحصائيات المركز الفرانكفورتي للتنسيق أن هناك 12 ألف ألماني ينتظرون الدور للحصول على كلى أو قلب أو كبد أو رئة. وتعاني المستشفيات الألمانية من ضعف التبرع بالأعضاء لأن 14 في المائة من الألمان فقط يحملون بطاقات رسمية تضمنهم كمتبرعين طوعيين بالأعضاء عند وفاتهم. وبعد أن انتعشت نسبيا حركة التبرع بالأعضاء منذ عام 2001 (3233 متبرعا) بلغت 4205 متبرعين عام 2010، وعادت النسبة إلى الانخفاض عام 2011 لتسجل 3917 فقط.

وتشكل الكلى نحو نصف الأعضاء التي تم التبرع بها عام 2011 (2036 كلى)، تليها الكبد (1040)، والقلب (362)، والرئة (313)، والبنكرياس (160)، والأمعاء الدقيقة (6 فقط). لكن عدد الكلى هذا لا يفي بالغرض وينبغي له أن يتضاعف 3 مرات، ويبلغ زمن انتظار المريض إلى حين حصوله على كلى نحو 7.5 سنة. ولهذا يموت 1000 إنسان في ألمانيا سنويا بسبب عجز جسمه عن الانتظار إلى حين توفر العضو المتبرع به.

ومع تصاعد حمى النقاشات حول «الأزمة الطبية الأخلاقية» التي تكشفت عنها فضيحة الأعضاء المزروعة، نشرت مجلة «دير شبيغل» تقريرا عن رجل أعمال من ولاية الراين الشمالي فيستفاليا لجأ إلى الطرق غير المشروعة في ألمانيا في سبيل الحصول على كلى. الرجل اليائس من وصول دور التبرع إليه عثر على إنسانة يائسة من كوسوفو باعت له كليتها مقابل 82 ألف يورو. ويفترض أن الرجل (74 سنة) أجرى العملية الجراحية في بريشتينا وتولى طبيب تركي زرع الكلية له، وتم تحويل المبلغ بمساعدة طبيب ألماني من العاصمة برلين.

النيابة العامة في غوتنغن تحقق حاليا في أكثر من 25 حالة تم فيها تجاوز مبدأ انتظار الدور من قبل بعض الأطباء في غوتنغن. ووجهت النيابة العامة تهمة القتل غير العمد ضد مجهول في 23 حالة، هذا لأن سرقة الدور من بعض المرضى أدى إلى موتهم، وهي حالات يتحمل مسؤوليتها الأطباء المتلاعبون. بين المتهمين طبيب بلقب بروفسور من غوتنغن عمره 60 سنة، وجراح آخر من نفس العيادة عمره 45 سنة زورا البيانات الصحية للمرضى مقابل مكافآت. بل إن الطبيب البالغ من العمر 45 عاما متهم أيضا بالسفر إلى دولة عربية لتنفيذ عملية زرع عضو حيوي (مصدر العضو غير واضح) مقابل المال. وفي حين يقول المصح في غوتنغن إن الطبيبين ينفيان التهم عنهما، ذكرت النيابة العامة أن التحقيق في أوله، وأنه سيستغرق عدة أشهر أخرى.

فحسب معهد استطلاعات الرأي المعروف «فورسا» قالت نسبة 75 في المائة من الألمان إنهم على استعداد للتبرع بأعضائهم الحيوية بعد موتهم، لكن واقع الحال يشير إلى أن 14 في المائة من هؤلاء «المتبرعين» صرحوا بذلك رسميا، ويحملون معهم دائما هوية تكشف استعدادهم للتبرع.

ودرس البرلمان الألماني (البوندستاج) قانونا صحيا جديدا يلزم كل مواطن بالتبرع بأعضائه الحيوية السليمة بعد وفاته. وجاء اهتمام البرلمان بالموضوع بمناسبة الإعلان عن يوم 4 يونيو (حزيران) الماضي يوما ألمانيا للتبرع بالأعضاء الحيوية. وينص القانون على السماح للمستشفيات، والأطباء، باستئصال الأعضاء الحيوية السليمة من جسد المتوفى ما لم يكن قد أعلن تحريريا عدم رغبته المسبقة في التبرع بأعضائه. ومعروف أن مثل هذا القانون معمول به في المجر وإسبانيا، وفي جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة.

وكان وزير الخارجية السابق، والقيادي في الحزب الاشتراكي، فرانك فالتر شتاينماير، قد حقق شعبية كبيرة عام 2009 لأنه تبرع بكليته إلى زوجته المريضة الكة بودنبندر. وانتخب شتاينماير رجل عام 2009، وحقق شعبية داخل حزبه قد تؤهله مجددا لمنافسة المستشارة المحافظة أنجيلا ميركل على منصب المستشارية في انتخابات 2014.

شتاينماير، حاله حال نقيب الأطباء الألمان فرانك أولريش مونغومري، عبر عن قلقه من تأثير الفضيحة على ثقة الناس في السلطات. وقال فرانك إن الفضيحة قد تهدد القانون الجديد بالفشل لأن الناس يرفضون التبرع بأعضائهم كي يحققوا الثروة للأطباء الفاسدين.