الجداريات جعلت من أصيلة مدينة متفردة في العالم العربي

لوحات كأنها تقول «أيها المارون بين الأزقة خذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة»

اللوحات الجدارية في المغرب حالة استثنائية تتميز بها أصيلة
TT

عندما تجوب أحياء أصيلة، خاصة «المدينة العتيقة»، ستصادف بين كل درب وزقاق لوحة فنية كبيرة، كأنك تنتقل عبرها من مشاهد لجهاز تلفزيون إلى متفرج أمام شاشة سينما، تتطلع إليها لكنك لا تستطيع أن تلتقط جميع التفاصيل بسبب حجم الرسومات.

إذا رغبت في التقاط صورة ترغمك الجداريات على التراجع خطوات إلى الوراء، وتدفعك إلى التفكير مليا عسى تلتقط الأفكار التي تعبر عنها الأشكال والرسالة التي ترسلها الألوان.

إنها الجداريات، حيث وجد الفن التشكيلي مرتعا في أصيلة. لوحات تلفت انتباه المارة، ويمكن على غرار إيقاعات محمود درويش أن نقول بتصرف: «أيها المارون بين الأزقة خذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة، وخذوا ما شئتم من صور.. كي تعرفوا أنكم لن تعرفوا.. كيف يرسم فنان لوحته على جدران المنازل.. أيها المارون بين الرسومات العابرة».

اللوحات الجدارية في المغرب حالة استثنائية تتميز بها أصيلة، حيث دأب الرسامون من مختلف بقاع العالم على رسم لوحاتهم، أو تجديدها، على جدران هذه المدينة كل سنة، في إطار منتدى أصيلة الثقافي الدولي.

خصوصية هذا العمل تكمن في تفاعله مع الجمهور باعتباره عملا حيا يدوم طوال السنة، ليتجدد بعمل آخر يحيي الفن التشكيلي في لوحات جدارية أخرى، تكسو المدينة بأشكال فنية وألوان زاهية متنوعة.

الجمهور لا يكتفي بالمرور مرور الكرام، بل يقف أحيانا، ويتأمل أحيانا أخرى، بل يلاحظ ويقترح. وهكذا خلقت اللوحات الجدارية أجواء اجتماعية وتواصلية، وحالة من حوار مستمر بين الناس والألوان والأشكال.

ويكون التحدي المهم أمام رسام الجدارية أن العمل التشكيلي يختلف كثيرا عن العمل في المرسم، حيث يشتغل الفنان بهدوء مستفيدا من وحدته وانسجامه مع عمله، وعادة ما يسمع موسيقى أو يرتشف فنجان شاي، يرتاح ويشتغل.

لكن العمل في الجداريات يتطلب استعدادا نفسيا؛ لأن الفنان يعمل أمام الجمهور، إذ إن وجود الجمهور أو فضول المارة من الممكن أن يشوش على الرسام وقدرته الانسجام في عمل يتطلب انغماسا كاملا.

يعتقد بعض الرسامين الذين رسموا جداريات في أصيلة أن تجربة الفنان وقوة شخصيته تجعلانه يتغلب على هذه الأشياء.

وبشأن العمل في الجداريات، قال الرسام السوري خالد الساعي لـ«الشرق الأوسط» إنه ظل يرسم جداريات في أصيلة مدة خمس سنوات متصلة، بواقع جدارية في كل سنة، وهو يرى أن العمل في الجداريات «أكثر صعوبة بالنسبة للفنان والأكثر وقعا وجمالية على الجمهور»، وأوضح أن الفنانين يلاقون صعوبات في العمل الجداري تكمن في الحجم الكبير والاشتغال أمام الجمهور، ذلك أنهم متعودون على أحجام صغيرة أو متوسطة أو كبيرة لكن حجم الجداريات أكبر، مشيرا إلى أن أقل جدارية في أصيلة يبلغ ارتفاعها ما بين أربعة وخمسة أمتار.

وحول الفرق بين المعارض والجداريات يقول الساعي، إن جداريات أصيلة تبقى لمدة سنة مما يتيح إمكانية مشاهدتها من طرف كثيرين، في حين عدد زوار أي معرض محدود ويقتصر على فترة العرض.

وأضاف: «الفن الجداري متاح ويفرض نفسه على جمهور المارة، وهو بالتالي لجميع الناس، وهو يفرض نفسه على الجميع؛ لأنهم جميعا يشاهدون الجداريات، في حين أن صالة الفنون والمعارض جمهورها نخبوي يأتي ويحضر بإرادته».

غير بعيد عن الممر الأنيق المحاذي للبحر والذي يقود إلى «قصر الثقافة» في أصيلة، تنتصب جدارية خالد الساعي، وهي عبارة عن سفينة وبحر وأمواج تشكلها حروف من الخط العربي. يقول الساعي عن لوحته، إنني اشتغلت على فكرة سفينة نوح، لكن حولتها إلى شكل معاصر، موضحا أنه جسَّدها بخط عربي وانسيابي يسمى «خط ديواني جلي»، وأردف: «هذه السفينة بمثابة إبحار وإعادة الرسو للتخلص من الرواسب التي تقع عبئا على الإنسانية، وهي تبين قدرة الحرف العربي على أن يخوض مجالات جديدة وأجواء مختلفة عن الأمور التقليدية التي نتوقعها من الخط». وشدد على ضرورة استمرارية قيم وجمالية الحرف العربي من عدة جوانب.

وغير بعيد عن جدارية خالد الساعي تنتصب جدارية أخرى ووجه آخر من الفن التشكيلي، لا يشبه مثيله في الصباغة والألوان ولا في استعمال الريشة، لكن يجذب انتباه المارة ويستقطب فضولهم.

هذا العمل الجداري عبارة عن «لوحة مشتركة» بين ثلاثة فنانين تشكيليين من دول مختلفة جمعت بينهم لغة الفن والإبداع. اللوحة عبارة عن أشكال جسدية صنعت من سجاد، اشتغل عليها كل من فيليب فيدال من البرتغال، ولويس استيبان من إسبانيا، وبيني رابيرب من الفلبين، وتروم فكرة هؤلاء الثلاثة إلى رد الاعتبار إلى عمل المرأة من خلال تقطيع أشكال فنية من سجاد قديم ولصقها على الحائط بطريقة إبداعية فريدة من نوعها، تثير المارة في تركيبتها، ويستغربون أكثر عند قراءة الأسماء الأجنبية لرساميها على الجدار، لأن ثقافة صناعة السجاد عربية الأصول.

كثيرون من سكان أصيلة يعتبرون أن أصل اللوحات الجدارية يعود إلى طبيعة العمران في المدينة، ذلك أن هذا العمران هو في الواقع عبارة عن «لوحات فنية» تتمثل في شكل أقواس وأبواب وتصميم أزقة المدينة العتيقة وهندسة البناء.

هكذا باتت اللوحات الجدارية في أصيلة تقليدا يواكب فعاليات كل موسم ثقافي، وهو يثير في أحيان كثيرة تساؤلات عن قيم ثقافية مختلفة نسجتها ريشة فنانين قدموا من بلدان مختلفة، والأهم من ذلك أنه جعل من أصيلة مدينة تكاد تكون المدينة الوحيدة في العالم العربي التي ترتبط في أذهان زائريها بجدارياتها، وهي في ذلك تبقى مدينة عربية متفردة.