معرض في جدة يستكشف أبعاد الخط العربي في زمننا المعاصر

بين الأساليب التقليدية والوسائل المعاصرة

من أعمال نجا مهداوي
TT

تستضيف قاعة «آثر غاليري» بمدينة جدة معرضا للخط العربي لنخبة من الفنانين المبدعين الذين تضطلع تجاربهم بالتعاطي مع هذا الشكل الفني الذي ارتبط بالقرآن الكريم من جهة، وبالحضارة العربية والإسلامية كقيمة جمالية على جدران الأماكن المقدسة والمساجد ونحوها. وشكلت فكرة حضوره الجمالي مرونة في الأشكال التزيينية ساهمت بدورها في ملء الفراغ في التمثيل التصويري حتى تم استخدامه في جميع جوانب الحياة الفنية، ومن هنا اعتبر عنصرا هاما في الفن الإسلامي.

وقد ظل الخط العربي منذ بداية الإمبراطورية الإسلامية وإلى ما بعد نهاية القرن التاسع عشر وحتى الحاضر، يمر بحراك لا يعرف الاستقرار ولا يعرف الطريق الذي يسير عليه إلا من خلال رهافة الخطاطين وبلاغة ذائقتهم الجمالية، وتحسين أدواتهم وتعدد التحولات التي تنطوي عليها تجاربهم الجمالية.

لقد أخضع الخط العربي منذ نشأته الأولى في صورته النبطية لتجارب لا حصر لها أدت إلى عدة تغييرات في تقنياته وأساليبه، وتنوع مدارسه، وبلاغة فتنته الجمالية، وتعدد المواد المستخدمة فيه، بفعل المكتسبات والتأثيرات الفكرية الجمالية المتزايدة، خاصة عندما اعتبرته جماعة البعد الواحد في العراق من أهم المورثات التي يمكن الاعتماد عليها في صناعة مفهوم تشكيلي عربي خالص.

إن رحلة الخط العربي مستمرة حتى يومنا هذا، وهدف هذا المعرض استكشاف أبعاد الخط العربي في زمننا الحاضر؛ ففي الماضي، كانت تسمية «خطاط» تنطبق فقط على من حاز «الإجازة» وعمل بدقة داخل نطاق حدود المدارس القائمة والأساليب المتبعة. فهل لا يزال هذا التعريف مناسبا؟ وإلى أي مدى تبدل؟

ليس هدف هذا المعرض الإجابة على هذه الأسئلة، ولكنه يكتفي بطرحها، فهو يعرض لوحات لنخبة من فناني «فن الخط العربي المعاصر» ومجموعة من الأعمال التقليدية التي تستخدم أساليب وتقنيات أصلية، وبالتالي تحافظ على أسس الخط العربي بقواعده الصارمة، كما في لوحات، فيما هناك تجارب تنفلت تماما من تلك القيود، كالخطاط حسن المسعودي، حيث تشكل تجاربه خصوصية مرهفة تكشف عن ملامح تشكيلية حديثة تعكس مؤثرات العصر الذي نعيش فيه، على الرغم من أنه واحد من المبدعين القلائل الذين تزخر ألوانهم بحس شرقي مرهف يستلهمه من تقنيات جمالية معاصرة، مستخدما في تحضيرها وصفات الخطاطين القدماء، من المساحيق الملونة المتوفرة ومعالجتها من الصمغ العربي، فضلا عن أنه يخترع لنفسه آلات الخط من القصب، وأخرى حديثة يبتكرها لحاجاته الإبداعية.

بينما في حالة نجا مهداوي فإنها تعنى بالدرجة الأولى بمسألة الإبداع وإرادة الانفلات من المتاهة التقليدية التي تجبر على الالتزام والإذعان لنوع محدد أو أسلوب مسبق فكريا وثقافيا، والمهداوي يراهن على تفكيك الأساليب التقليدية وتعرية الشكل المكتوب (القواعد والحروف والإشارات بل حتى الكلمات) فالقضية بالنسبة له كرسام هو تخطي شفرة الكتابة الاعتيادية والمقروءة لتحل مكانها متخيلات من الإبداع لا حدود لها.

وقد احتلت أعمال ناصر السالم في أول معرض له القاعة الرئيسية للمعرض، ويعتبر السالم نفسه خطاطا سيستلهم أعماله من الكلمة العربية المكتوبة، ومستخدما قضبان النيون والأعمدة الخشبية التي لا تعتبر عادة من لوازم عدة الخطاطين، ليستكشف عبرها تصاميم مختلطة وغير تقليدية من الخط؛ إذ إنه يعتبر أن الكتابة على الورق لم تعد كافية، وأنه في حاجة لإعطاء مفهوم الكلمة حقها بواسطة سبل أخرى تتعدى مجرد الكتابة، تساعده في ذلك مكتسباته السابقة في مجال الهندسة المعمارية التي قد تسمح له بالدمج بين التصميم ودراسة الأبعاد الجمالية في عمله، بطريقة تساهم في تقريب المسافة بينه وبين المتلقي.

إن العمل «أولا تروا في أنفسكم» هو آية كريمة من القرآن الكريم صورت على نمط الخط الكوفي، استخدم فيه الفولاذ العاكس المقاوم للصدأ كمادة لتشكيل العمل الفني. والآية تشجع المرء على التأمل في الذات واكتشاف ما بداخلها من عجائب وكمال في خلق الله. ومن خلال استخدامه الفولاذ المقاوم للصدأ، يعزز ناصر رسالة الآية الكريمة؛ إذ إن المشاهدين، خلال قراءتهم للآية، سوف يرون أيضا انعكاسا لأنفسهم، ما سوف يدفع بهم في المقابل إلى التأمل في أنفسهم، كما من شأنه أن يدفع بالمتلقي إلى إعادة النظر في تعريفهم المعتاد للخط، وإلى الاعتراف بإمكانية الغوص بعيدا في مفاهيمه والتنبه للدور المؤثر الذي يمكن أن يلعبه في الممارسة الفنية المعاصرة.

وتأتي معظم التجارب في المعرض لتطرح أسئلة لا تنتهي مع الأنماط التقليدية والتقنيات الجمالية المعاصرة، وصولا إلى الأنماط الجديدة التي تمترست خلف تيارات ما بعد الحداثة التي تحاول أن تتكيف مع الممارسات الفنية الجديدة، وهو ما عزز من التنوع والمفارقات البصرية في بنية الخط العربي كنسق جمالي.

شارك في المعرض هلال قازان وسمير الصايغ وأحمد مصطفى ونجا مهداوي ونصار منصور وفرح بهبهاني وحسن مسعودي ومنير الشعراني وناصر السالم.