«الأنف».. مهنة نادرة في فرنسا وصاحبها يكسب ذهبا

جولة في «غراس» بلدة الرياحين التي تدعو زوارها إلى «التحمم بعطر»

بطاقة بريدية للنساء العاملات في فرز أكمام الورد
TT

إنها بلدة العطور والرياحين في فرنسا، وفي مزارعها تنبت الأزهار والأعشاب التي تتحول إلى عبق يفوح من أجياد النساء وأكف الرجال. ويكفي ذكر اسم «غراس» والوصول بالسيارة إلى مشارفها، انطلاقا من منتجع «كان» حتى يغمر الزائر إحساس بأن الشذى سيهب عليه مع استدارات الطريق الساحرة الصاعدة إلى هضبتها والمارة ببطاحها. لقد ولدت صناعة العطر هنا قبل عقود طويلة. وهناك صور وبطاقات بريدية لسوق الأزهار وللسيدات العاملات في مهنة فرز تويجات الورد البلدي، تمهيدا لعصره أو غليه واستخلاص العطر منه.

يكفي أن يرى المرء الآتي من بلاد العرب مجاميع السيدات الأنيقات في الأسواق والبنات الجالسات في المقاهي، حتى تقفز إلى ذهنه فكرة أن كل هذه المخلوقات الرقيقة قد «تحممت بعطر»، كما تنشد فيروز في أغنيتها الجميلة التي كتب كلماتها جبران خليل جبران. فهل صحيح أن الناس هنا يستحمون بالعطور؟ قد لا تكون أسعارها الباهظة تشجع على تطبيق الفكرة، خصوصا إذا ترافقت مع الأزمة الاقتصادية التي جعلت عطور باريس من الكماليات وغلّبت عليها الخلاصات والزيوت المستوردة من شرق آسيا.

تستضيف «غراس»، منذ سنتين، مهرجانا يقام كل صيف احتفالا بعشاق العطور. وهؤلاء العشاق لا يكتفون بالتعطر بأنواع الروائح الزكية، بل هم من جامعي القارورات القديمة والنادرة التي تحمل أسماء علامات فرنسية شهيرة مضى زمنها ولم يعد أحد ينتجها حاليا. وقد لا يصدق الزائر أن قارورة زرقاء اللون من عطر «سوار دو باري» تعود إلى أوائل القرن الماضي، يمكن أن تباع بسعر العشرات من قناني وحاويات العطور الغالية الجديدة.

لكن مزارع «غراس» ومهرجانها وترف نسائها ليس هو أهم ما فيها، بل تلك الدورات والصفوف والمدرسة التي يقصدها طلاب في أماكن بعيدة لكي يدرسوا فيها ويتخرجوا حاملين لقب «أنف»، أو عطار مبتكر وليس مجرد بائع عطر. و«الأنف» وظيفة لا يبلغها أي كان، بل لا بد أن تتوافر لديه قابلية طبيعية تتمثل في حاسة شم استثنائية، بالإضافة إلى حب للمهنة ومخيلة واسعة قادرة على ابتكار روائح جديدة من خليط من الخلاصات والأعشاب.

وفي السابق، حين لم تكن هناك في فرنسا مدارس لتخريج الأنوف، كان العاملون في هذه المهنة يحاولون نقلها وتعليمها إلى أبنائهم وبناتهم، مثل الكثير من المهن المتوارثة في العائلات. وتقول فرانسواز كارون، التي تحمل اسم عائلة شهيرة تخصصت في صناعة العطور في فرنسا، أبا عن جد، إن والدها كان يحلم بنقل خبراته إلى أطفاله لأنه كان يعتبر مهنة العطار واحدة من أروع المهن. وقد دخلت فرانسواز إلى إحدى مدارس تخريج الأنوف، لكي تعزز خبرتها، وهي اليوم تقف وراء الكثير من العطور الشهيرة التي نزلت إلى الأسواق خلال السنوات العشرين الأخيرة، مثل «إيرس نوبيل»، و«فيلفيت» المأخوذ من أزهار الحمضيات، و«إنجل البنفسجي». ولكن كيف قررت فرانسواز أن تصبح «أنفا»؟

الجواب بسيط. فهي تقول إنها ولدت وهي تسبح في أجواء العطور، فقد ولدت في هذه البلدة لعائلة تمتهن اعتصار رحيق الأزهار وتسويقها. وكان أبوها وجدها من تجار الورد، وهي كانت في طفولتها تلعب وسط شتلات الأزهار العطرية في مزارع العائلة، ولهذا كان طبيعيا أن تدخل البنت إلى مدرسة «رور» التي تحول اسمها، في ما بعد، إلى «جيفا دان». وبعد ثلاث سنوات، تخرجت وهي تحمل شهادة «أنف». ومن يستمع إلى فرانسواز وهي تتحدث عن لقبها، يخطر على باله البيت الشعري الشهير للحطيئة، الذي قاله في مديح بغيض بن عامر، سيد قبيلة «بنو أنف الناقة»، بعد أن كان القوم يسخرون من اسم قبيلته: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يساوي بأنف الناقة الذنَبا؟

عن الشروط الواجب توافرها في الأنف، تقول فرانسواز إن أهم الصفات هي حب المهنة والتولع بالروائح، وكذلك الصبر والقدرة على الإتيان بأفكار جديدة، مع الكثير من التواضع. وخلافا لما يشاع عن أن العطارين يتمتعون بحاسة شم خارقة، فإنها توضح لنا أن هذه الحاسة ليست هي الأساس، بل هي تتطور أثناء المران والممارسة. وليس صحيحا أن كل من يشم بشكل خارق يستطيع أن يصبح عطارا ممتازا. فخلال دراستها، صادفت فرانسواز طالبا واحدا فحسب، من بين العشرات، فشل في الدراسة لأنه لم يكن قادرا على شم أي شيء أو التمييز بين الروائح. وتلك حالة استثنائية. ولهذا، فإنها تعتقد أن الأشخاص القابلين للاستقبال وللاهتمام هم من ينجحون في المهنة أكثر من غيرهم.

عن طريقتها في ابتكار عطر جديد، تكشف سليلة كارون أنها تجد إلهامها أثناء رحلاتها في أرجاء العالم ورؤيتها للمناظر الطبيعية المختلفة. وطبعا، فهي امرأة تحب الأزهار والنباتات، وتبحث عن الأمور البسيطة وغير المعقدة، وتمضي كل وقتها في العمل، أي في الشم، وتقول إنها، حتى وهي في سريرها ليلا، فإنها تستنشق ما حولها، وعندما تحلم فإن بقايا الحلم تترك لديها ذكريات يمكن أن تترجم بالعطور. وإذا كانت هناك من نصيحة تقدمها لمن يريد العمل في هذه المهنة، فهي أن عليه أن يكون خالي البال… لأن «التفكير في الكثير من الأمور يطرد من الرأس فراشات الشذى».

كان لا بد من سؤالها عن السبب الذي يجعل من الرجال سادة هذه المهنة، أكثر من النساء؟ وجوابها هو قناعتها بأن ردود الفعل النسائية تختلف عن ردود الفعل الرجالية. وحتى عندما يتلقى الجنسان معلومات أساسية واحدة فإن كل جنس يفكر فيها ويفسرها على طريقته. وعلى سبيل المثال، فإنها عندما تشتغل على ابتكار عطر جديد فإنها تتبع حاستها السادسة وتتعجل في بلوغ الهدف. أما الرجل فانه أبطأ في العمل، لكنه «يطبخ» فكرته جيدا ويسعى إلى الاكتمال. ولم تمنع سيطرة الرجال على المهنة من ظهور «أنوف» نسائية شهيرة مثل أوليفيا جياكوبيتي - المرأة التي تبدو أثناء العمل وكأنها تتعبد في محراب المهنة.

في «غراس»، أيضا، ولد الأنف آلان غاروسي، أحد أبرز مبتكري العطور لدى شركة أميركية تتفرع من مجموعة عالمية. وهو يقول إن من شروط المهنة أن يكون صاحبها منجذبا إلى الروائح انجذاب الرسام إلى الألوان. وبما أن كل البشر يملكون أنوفا وحاسة للشم، فإن ما يميز العطار الأصيل هو قدرته على تسجيل الروائح في ذاكرته، واستحضارها في ما بعد. إن هذا الكلام لم يأت من العدم فقد تعلّم غاروسي المهنة على يد مشاهير «الأنوف» الفرنسيين الذين كانوا كثيرين قبل أكثر من ثلاثين سنة ثم رحلوا تباعا، تاركين فراغا في أوساط المهنة. ولهذا السبب، فإن الأنف الجيد لا يقدر بثمن في هذه الأيام، ومن يملكه يعيش مرتاحا من عائدات عمله الذي يدر عليه الكثير.. حاله حال الخبراء في علوم الفضاء والبرمجة الإلكترونية. وهناك بينهم من يؤمّن على أنفه لدى شركات التأمين، ضد المرض أو الحوادث التي قد تسلبه مهاراته في الشم. ولهذا، فإن أصحاب هذه المهنة يعتبرون الزكام عدوهم الأول، لأنه يحرمهم من تمييز الروائح.

اليوم، لم تعد مدرسة العطارين مقصورة على «غراس»، بل توجد واحدة أهم منها في فرساي إلى الغرب من باريس - المدينة التي كانت عاصمة ملوك فرنسا. وهي ليست مجرد مدرسة، بل إن اسمها الكامل هو «المعهد الوطني العالي للعطور ومستحضرات التجميل ومذاقات الأطعمة». ومن يدخل هذه المدرسة لا بد أن يكون قد حصل على الشهادة الثانوية ودرس فوقها سنتين في تخصص مناسب. وهناك دور شهيرة للأزياء والعطور، تبادر إلى تأسيس مدارسها الخاصة لتخريج عطارين يأخذون مكانهم في ورشاتها، بعد تقاعد سابقيهم ومعلميهم. وهناك اختبارات أساسية تقوم على تقديم قارورة من مزيج من الخلاصات العطرية إلى المتقدم، ويكون عليه أن يفكك الروائح التي فيها، أي أن يتعرف إلى كل عنصر من عناصرها: الياسمين والبرتقال والمسك والقرفة والخشب والورد.. وهكذا.

وهنا، لا بد من توضيح أن الخلاصات لا تمزج كيفما اتفق، بل هناك «عائلات عطرية» تنسجم مع بعضها، فهذا عطر «زهري» وذاك «بهاري» وثالث «خشبي» وهكذا. والشخص العادي يستطيع أن يخزن في ذاكرته روائح مئات العناصر. أما العطار المحترف فيمكن أن يتعرف على ألف نوع من الروائح. فإذا أراد أن يدخل إلى صفوف الصفوة من «الأنوف»، فإن عليه أن يكون قادرا على استذكار خمسة آلاف رائحة مختلفة.. بكل درجاتها. وطالب العطر يدرس المواد الأولية التي تتشكل منها الخلاصات، ويتعلم درجاتها، كما لا بد من أن يتعرف على قابلية كل رائحة للتبخر أو للانتشار في الجو خلال بضع ساعات. وهناك روائح تبقى ملتصقة بالجلد طوال أسبوع كامل.

على الطالب أن يتعلم، أيضا، تصنيف الروائح حسب عائلاتها، ثم حسب درجات تبخرها أو انتشارها وديمومتها. ومما يجعل «الأنوف الأسطوات» مطلوبين كثيرا، هو الميل التجاري الجديد لطرح أصناف جديدة من العطور كل شهر. ففي السابق، كانت السيدة الأنيقة تحرص على أن تكون «مخلصة» لعطرها، مثلما هي مخلصة لحبيبها أو زوجها. أما اليوم، فإن «الخيانة العطرية» ممارسة مقبولة، وفي أدراج كل امرأة أكثر من عطر واحد، فهذا للصباح، وذاك للسهرة، وثالث للمناسبات الخاصة، ورابع للسفر، وخامس للأحزان.. حتى الأحزان صار لها عطرها ذو القارورة السوداء والمحتشمة.

يترك السائحون بلدة «غراس» وفي كفوفهم الكثير من عطرها. إن كل من تصافحه هنا، أو تصافحها، يترك في يدك نسمة من رائحته بحيث يكاد المرء يدوخ من كثرة ما استنشق وتشمم. لكن الزيارة تستحق التعب، بل هي موصوفة لطرد التعب وتغيير الأفكار.